في لحظة فاصلة من تاريخ المقاومة الإسلامية، تلقت الشعوب الحرة خبر فقدان القائد السيد حسن نصر الله. لكن غيابه لا يعني نهاية الطريق، بل يمثل نقطة تحول تفتح المجال لمقاومة تستمد قوتها من إرثه الاستراتيجي. فمسيرته لم تكن مجرد قيادة ميدانية، بل مشروع شامل استهدف ليس فقط تحرير الأرض، بل صون الكرامة الإنسانية. كان نصر الله قائدًا متعدد الأبعاد، نجح في بناء منظومة متكاملة تجمع بين النضال المسلح والعمل الاجتماعي والسياسي والإعلامي.
نصر الله.. قائد شامل
لم يكن السيد حسن نصر الله مجرد قائد عسكري أو رمز للمقاومة المسلحة؛ بل كان قائدًا برؤية شاملة تجمع بين القيادة السياسية، الاجتماعية، والثقافية. إلى جانب دوره في قيادة المقاومة، ساهم بالتعاون مع الكوادر النشطة في بناء مؤسسات تعليمية واجتماعية في لبنان، مثل “مؤسسة الشهيد” و”هيئة دعم المقاومة الإسلامية”. هذه المؤسسات لا تهدف فقط إلى دعم عوائل الشهداء، بل تعمل أيضًا على تحسين أوضاع المجتمع اللبناني ومقاومة آثار الفقر والظلم والحرمان. نجح نصر الله في تحقيق توازن بين السلاح والكلمة، وركز على أبعاد متعددة للمقاومة تشمل الجوانب الاجتماعية والإنسانية، مما جعل مشروعه جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي اللبناني.
استراتيجية الإعلام في المقاومة
أدرك السيد نصر الله أن الإعلام هو جزء لا يتجزأ من المقاومة. قناة المنار، التي أشرف عليها، لعبت دورًا أساسيًا في نشر رسائل المقاومة وتعزيز الوعي بالقضية الفلسطينية على المستوى العربي والدولي. بالنسبة لنصر الله، لم يكن الإعلام مجرد أداة لنقل الأخبار، بل وسيلة استراتيجية لتشكيل الوعي العام ومواجهة الحرب النفسية. تمكنت قناة المنار من تقديم سرد مغاير حول حرب 2006، مما عزز الثقة في قدرة المقاومة على الصمود. كما أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إيصال رسالة المقاومة إلى أجيال جديدة حول العالم، مما جعلها مشروعًا مستدامًا يتفاعل مع التطورات التقنية الحديثة.
البعد السياسي والدبلوماسي
لم يعتمد نصر الله فقط على القوة العسكرية، بل آمن بالدبلوماسية كأداة مكملة للمقاومة. من خلال التفاوض على صفقات تبادل الأسرى والدعوة إلى الحوار الوطني وحل النزاعات الداخلية بين مختلف الفصائل اللبنانية، والمشاركة السياسية لحزب الله في الحكومة اللبنانية، أثبت فهمًا عميقًا لأهمية السياسة إلى جانب العمل المسلح. بعد حرب 2006، تبنى نصر الله استراتيجية تهدئة لتجنب التصعيد وتعزيز التحالفات الإقليمية مع دول مثل إيران وسوريا. يعكس هذا التوازن بين العمل العسكري والسياسي فهمه لتعقيدات المشهد الإقليمي وضرورة المرونة في التعامل مع التحديات الكبرى.
المواقف الإقليمية ودعم الشعوب
لم تقتصر رؤية نصر الله على لبنان فقط، بل كانت تمتد لتشمل قضايا المنطقة. في العديد من خطاباته، أكد دعمه للشعوب التي تسعى لتحقيق العدالة، بما في ذلك الشعب الفلسطيني. كما أظهر موقفه الثابت تجاه قضايا مثل البحرين، مشددًا على أهمية الحوار واحترام حقوق الإنسان. كان دائمًا يدعو إلى الوحدة الوطنية ونبذ الفتن الطائفية، مؤكدًا أن النضال من أجل الحقوق هو نضال يخص الجميع بغض النظر عن المذهب أو الانتماء. هذه الفلسفة تعكس التزامه بحقوق الإنسان وتبرز دور المقاومة في دعم الشعوب المظلومة.
المقاومة بين السلاح والكلمة
فهم نصر الله أن المقاومة تتجاوز العمل العسكري لتشمل السياسة والإعلام. دعا إلى تنظيم الفعاليات الشعبية وتعزيز ثقافة الصمود، مؤكدًا أن السلاح والكلمة يجب أن يسيرا معًا لتحقيق أهداف المقاومة. هذا التوازن ساهم في خلق تيار شعبي داعم للمقاومة يدرك أبعادها الفكرية والسياسية، مما جعل المقاومة مشروعًا مستدامًا يواكب التحديات المتغيرة.
رؤية متوازنة للمستقبل
في ظل التحولات الكبيرة التي تشهدها المنطقة، أكد نصر الله أن النضال لا يعتمد فقط على السلاح، بل يتطلب أدوات أخرى مثل الإعلام والدبلوماسية والتضامن الشعبي. تحمل التحديات المستقبلية أهمية خاصة، وأبرزها التحولات السياسية الإقليمية والدولية. تشهد المنطقة موجة متزايدة من التطبيع مع الكيان الصهيوني، مما يضعف الزخم الشعبي للقضية الفلسطينية ويعزل المقاومة على المستوى الدولي.
كما تؤثر الأوضاع الاقتصادية المتردية في لبنان على قدرة حزب الله في الحفاظ على توازن فعّال بين العمل العسكري ودوره السياسي والاجتماعي، مع تزايد الضغوط الدولية على الدول الداعمة للمقاومة، مثل إيران وسوريا. هذه التحديات تتطلب إعادة تقييم استراتيجيات المقاومة، مع التركيز على الوعي الشعبي والإعلام والدبلوماسية كأدوات رئيسية في معركة الوعي العالمي.
ختاماً، يمثل استشهاد السيد حسن نصر الله بداية مرحلة جديدة في النضال من أجل الحرية، مما يضع أمامنا مسؤولية للحفاظ على إرث المقاومة وتعزيزه عبر وسائل متعددة: القوة العسكرية، الإعلام، والسياسة. في ظل محاولات التطبيع وتهميش القضية الفلسطينية، تبقى المقاومة مشروعًا مستدامًا يتطلب دعمًا شعبيًا وعالميًا. لذا، يجب علينا مواصلة نشر الوعي والتمسك بالحقوق المشروعة، مستلهمين من تضحيات الشهداء في سبيل الكرامة والعدالة الإنسانية.
خالص العزاء للشعب اللبناني والفلسطيني ولكل مناصري المقاومة في العالم، ولجميع عوائل الشهداء. رحمة الله عليك، سيدنا الأمين، حيًا وميتًا.
- كاتب بحريني
المصدر: بريد الموقع