يجد الناخب اللبناني نفسه خلال الأيام الثلاثة المُقبلة، التي تفصِله عن نقطة الوصول في الماراتون الإنتخابي الطويل، وكأنه بحاجة الى جلسة صفاء ذهني مع نفسه، يستعرض خلالها صور حملات إنتخابية غير مسبوقة في تاريخ لبنان المُعاصر، على وقعِ برامج انتخابية صاخبة بعضها للتسويق الإنتخابي، والبعض الآخر يتَّصف بالجدّية ضمن خطَّة عمل كاملة مُتكاملة للمباشرة بورشة بناء الدولة، وبند مُكافحة الفساد فيها يحمِل صِفة “مُعجَّل مُكرَّر” لأن الوضع العام للخزينة مٌترافقاً مع الأزمات المعيشية لم يعُد يحتمل تهاوناً في التنفيذ، أو خُطَطاً مطّاطة طويلة الأمد.
الوقت لم يعُد يسمح باستعراض اللوائح الإنتخابية المُتنافِسَة ولا الوقوف عند التحالفات، لأن الناخبين قد حَسَموا خياراتهم، ولا بُدَّ لهم من ربط الأحزمة ليكون الإقلاع سليماً ومُحصَّناً، خاصة أن الأيام الفاصلة سوف تزخر بخفافيش ليل، يحملون “الأخضر الأميركي”، ويعِسُّون في الزواريب بحثاُ عن الذمم الرخيصة، ولذلك، فإن حصانة الكرامة الشخصية مطلوبة كما دائماً لمواجهة من يعتبرون المواطن مجرَّد صوتٍ انتخابي وليس قيمة وازنة في تقرير مصير وطن.
القيمة الوازنة لكل صوتٍ انتخابيٍّ شريفٍ ونزيه، وحدها التي تقطع الطريق على تُجَّار الذمم، ووحدها الكلمة الفصل في إنتاج مجلسٍ نيابي يضمُّ كتلاً سياسية على المستوى الحزبي ومُتضامنة أو مُتحالفة على المستوى الرؤيوي، لأن برلماناً يتشكَّل “من كلِّ وادٍ عصا” ضمن لوائح رفقة طريق لبعض المُستقلِّين لا يُؤمَن له ولا يؤتمَن على دولة.
هنا لا بُدَّ للناخب أن يُسائل نفسه، ماذا لو اختار مرشَّحاً ضمن لائحة “آخر ساعة” التي تنادى البعض الى تشكيلها، وأعضاؤها لا يتشابهون في شيء، سوى القاسم المشترك الأوحد: الوصول الى المجلس النيابي عبر لائحة فَرَضها القانون الإنتخابي، فإن هذا الناخب قد اختار شخصاً متحرراً من كافة قيود الإلتزام، وليست هناك مؤسسة معنوية حزبية تضمن أداءه، وليس يمتلك أيضاً برنامج عمل، وحتى لو امتلك، فإن مشاريع القوانين في المجلس النيابي تلزمها كُتَل سياسية وتحالفات ضمن المجلس مبنيَّة على رؤية موحَّدة لمُعالجة تراكمات مرحلة سادها الفساد، وهناك قرار على مستوى القادة الكبار في هذا الوطن، على أن مرحلة بناء الدولة ستبدأ فور تشكيل حكومة ما بعد الإنتخابات.
تحكيم العقل والمنطق، بعيداً عن سيلان العواطف الشخصية من جهة، وعن سيولة “الأخضر الأميركي” من جهة أخرى، السبيل الوحيد لأن نستولد بخياراتنا الحُرَّة برلماناً يُشبه الوطن، والرهان على أشخاص المرشَّحين الذي نثِق بهم أمرٌ محمود ولكن، أسوة بدول العالم قاطبة، فإن الحياة السياسية تقوم على المؤسسات الحزبية الضامنة لنوابها ولوزرائها والراعية لتحقيق برامج عمل تضعها القيادات الحزبية وتتنافس على أساسها، والمُعارضة داخل المجلس والحكومة مشروعة لمن لديه رؤية مُغايرة أو يمتلك البدائل.
الغريب في هذه الإنتخابات، أننا بعد انتظار تسع سنوات لهذا الإستحقاق، مرَّ الوطن اللبناني خلالها بمِحَن مصيرية هدَّدت الكيان، ولولا شجاعة الجيش والشعب والمقاومة لما بقي وطن ولا بقيت دولة، ومع ذلك، وعلى وقع طبول الحرب الإقليمية، والتهديدات التي نعيشها جنوباً، وارتدادات ما عشناه شرقاً بعد دحرنا لٌلإرهاب عن أرضنا، تأتينا خطابات سطحية الى حدود السخافة من بعض “المرشَّحين المستنوِبين”، تبني لنا أحلاماً من ورق وقصوراً على رمال، والمُعضلة الكبرى أننا نُدرِك أنهم كاذبون، والصادقون منهم يبيعوننا سمكاً في البحر.
إن عنوان المجلس النيابي القادم هو بناء الدولة، والدولة تقوم على الأحزاب وليس على الأشخاص، وإذا كان بناء بيتٍ يستلزِم مهندساً وفريق عملِ مُتجانس تحت إدارة واحدة، فسوف يكون هذا هو خيار الناخب اللبناني الواعي لضمان متانة أساسات الدولة، وبناء البيت لا يُمكن أن يتمّ ويكتمل بفريق عملٍ نجمعه من هنا وهناك، لا مُهندس بناء على رأسه ولا مايسترو قيادي يُديير السياسات ويُشرف على منهجية العمل، لكننا بإذن الله واثقون من خياراتنا الصائبة، خاصة متى كان الضمانة قائد وطني كبير وسيِّد وعودٍ صادقة، بالتكافل والتضامن مع عهدِ ميمون نبني عليه الآمال، ونسير بالرهانات التي نحن بها واثقون…
المصدر: موقع المنار