عند بدء تفكيك بعض الألوية والفرق العسكرية للجيش “الإسرائيلي” في غزة، خلال شهر يونيو/ حزيران الجاري، مع دخول الشهر التاسع من العدوان، وتفكُّك أوهام العثور على رهائن أحياء، أو الوصول إلى قادة المقاومة الفلسطينية نتيجة صعوبات المواجهات البرية وتعقيدات الأنفاق والدهاليز، ونتيجة ثبوت عدم جدوى التوغُّل في عمق رفح، أحرق العدو معبر رفح ودمَّره لاحقاً، وبحث عن أنفاق إفتراضية تحت محور فيلادلفيا، وإدَّعى تدميرها على الحدود مع مصر، لحفظ ماء وجه الجيش الخائب إستخبارياً وعسكرياً، والحكومة الفاشلة في إدارة العدوان، وفق تصريحات سياسيين سابقين ومعارضين وقادة ميدانيين .
الوجهة الجديدة بعد الهزيمة في غزة، تؤكد أوساط العدو أنها جنوب لبنان، رغم أن هذا العدو لديه فكرة كاملة عن التجربة مع لبنان عامي 2000 و2006، خاصة مع جنوبه وضاحيته الجنوبية، التي استنبط منها هذا العدو ما باتت تٌسمى “عقيدة الضاحية”، وغدت نهج حرب لجيشه وفق ما أعلن عام 2008.
و”عقيدة الضاحية”، ليست تعني حصراً التدمير الشامل الغير متكافىء والغير متناسب مع قدرات الخصم، بل أيضاً إيذاء البيئة الحاضنة للخصم وتأليبها عليه من خلال القصف العشوائي المُدمر للحياة المدنية، وما فشلت “إسرائيل” بتطبيقه من هذه العقيدة مع لبنان، حاولت فعله في قطاع غزة الذي دمرت 80% من مبانيه وبُناه التحتية، وقضت على عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين، وفشلت في تحقيق أهدافها لغاية الآن، ولعل درس تموز 2006 مع لبنان، يٌصلح لأن يكون الفصل الأول من أي كتاب مستقبلاً حول إندثار النزعة الصهيونية، الذي كُتِب الفصل الثاني منه في قطاع غزة.
المفارقة في “عقيدة الضاحية”، أن الذي ابتدعها هو غادي آيزنكوت، الذي كان قائد الجبهة الشمالية في الجيش الصهيوني عام 2006، وغدا لاحقاً رئيساً للأركان، وانضم منذ بداية العدوان على غزة الى “مجلس الحرب”، واستقال مؤخراً مع بيني غانتس لخلافات حول “اليوم التالي” في غزة، لكن آيزنكوت قبل إطلاقه فكرة “عقيدة الضاحية” لم يقرأ بموضوعية على ما يبدو تفاصيل هزيمة كيانه أمام المقاومة في حرب التحرير عام 2000، وكيف صُهِرت أجساد جنود العدوان بفولاذ دباباتهم، ولا هو رأى مشهدية الهروب من لبنان تحت وقع ضربات أهل العقيدة الإيمانية والوطنية الذين لم ولن تُرهبهم “عقيدة الضاحية”.
يرى بول رودجرز الأستاذ الفخري لدراسات السلام في جامعة “برادفورد” البريطانية، أن الحدة الهائلة أو ما يُعرف بالقوة الغاشمة للحرب “الإسرائيلية” على غزة، هي نتيجة للصدمة المستمرة الناتجة عن عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مقرونة بحكومة يمينية تضم عناصر متطرفة، إضافة الى النهج “الإسرائيلي” المحدد في الحرب والمعروف بإسم “عقيدة الضاحية”.
وإذا سلمنا جدلاً، أن “عقيدة الضاحية” باتت في صلب ثقافة الجيش “الإسرائيلي”، لجهة الحرب الخاطفة المقرونة بقوة تدميرية هائلة، فماذا استطاعت تحقيقه هذه “القوة الهائلة” المدعومة من الغالبية الساحقة من المستوطنين الصهاينة، الذين كانوا وما زالوا مع تدمير قطاع غزة وإعادة إحتلاله، ومع تعزيز مستوطنات الضفة الغربية لتهجير الفلسطينيين منها، وهذا ما حصل لنحو 35 بلدة فلسطينية حتى الآن، وهذه الغالبية الساحقة هي نفسها مع دخول الجيش الصهيوني جنوب لبنان، وإبعاد المقاومة الى ما وراء الليطاني، ليس فقط بهدف إعادة المستوطنين إلى شمال فلسطين المحتلة، بل لتدمير لبنان، ليس بالضرورة إعادته إلى “العصر الحجري” كما يهلوس نتانياهو وبن غفير وسيموترتش، بل للقضاء على البنية العسكرية لحزب الله والمقاومة، وهم الذين عجزوا في قطاع محاصر مساحته 360 كيلومتر مربع عن لجم مقاومة تعتبر متواضعة بالمقارنة مع قدرات حزب الله والمقاومة في لبنان.
ولنكون أكثر وضوحاً وصراحة، قد يكون الشعب “الإسرائيلي”، خارج غلاف غزة وخارج المستوطنات الشمالية، قد عاش أجواءً شبه عادية خلال الأشهر الثمانية الماضية من العدوان على غزة، ربما لأن صواريخ المقاومة الفلسطينية لم تدُكُ المدن والبنى التحتية الصهيونية خارج مستوطنات الغلاف، لكن الأمر مختلف مع حزب الله والمقاومة في لبنان، والمعادلة أيضاً مختلفة، ومختلفة جداً، سيما وأن قرارات قيادة حزب الله جاهزة لتطبيق مبدأ “شمولية الردع”، مدينة مقابل مدينة، ومدني مقابل مدني، وبنية تحتية مقابل بنية تحتية، وعدم إبقاء حجر على حجر في الكيان الصهيوني مقابل خطته لإعادة لبنان إلى “العصر الحجري”.
وبصرف النظر عن الرؤية الواقعية لبعض السياسيين والعسكريين “الإسرائيليين”، المُدركين لمخاطر المواجهة مع لبنان، خاصة بعد ثمانية أشهر من التدمير والإجرام في قطاع غزة، والتي انتهت لغاية الآن بهزيمة نكراء لجهة فشل تحقيق الأهداف المعلنة، فإن رئيس الموساد السابق تامير باردو، قال للقناة 12 “الإسرائيلية”: “نتنياهو ليست لديه استراتيجية، ولا لديه رؤية في أي موضوع، ويقود إسرائيل إلى فوضى”، وأضاف باردو: “نتنياهو لا يسمع ولا يرى ويفكر فقط بنفسه ولا يفكر بدولتنا وهو يقودنا إلى كارثة”.
وبصرف النظر عن ميزان القوى على الأرض، لجبهة لبنان مع العدو الصهيوني، وبصرف النظر عن مدى توسُّع الحرب إقليمياً لجهة القوى التي قد تشارك بها، وهذا احتمال أكثر من وارد، خاصة لدى دول محور المقاومة في حال أميركا سوَّلت لها نفسها دعم الكيان الصهيوني في عدوانه، فإن السؤال ليس في مَن سينتصر في هذه الحرب، بل في مَن سيكون مجتمعه قادراً على “الصمود الحربي”، وماذا عن المجتمع “الإسرائيلي” عندما تعتمد دول محور المقاومة تطبيق “عقيدة الضاحية” عليه، ولا يعرف من أين تتساقط على مدنه ومستوطناته وبناه التحتية حمم أهل العقيدة الصافية، الذين يؤمنون باستحالة العيش مع هكذا عدو عنصري مجرم؟ ولن نستفيض أكثر في الشرح، لأن المجتمع الإسرائيلي سيعيش بالبث الحي براً وبحراً وجواً ملحمة لم يشهدها منذ تاريخ تأسيس هذا الكيان الهجين، و”عقيدة الضاحية” التي لا مكان لتطبيقها في لبنان، سوف تًضاف إليها في ذاكرة مَن بقي على أرض فلسطين المحتلة عقدة المقاومة وإلى الأبد.
المصدر: بريد الموقع