منذ شهر يناير الماضي، يتداول أهل الجنود “الإسرائيليين” الذين دفعت بهم قيادتهم الى مغامرات العمليات البرية داخل قطاع غزة، مقولةً، أن أبناءهم باتوا كما البطّ في حقول الرماية، في توصيفٍ للمخاطر التي يواجهها الجنود، بعد التغلغل الغير مدروس على أرضٍ باطنها أنفاق بأطوال ومساحات تفوق أضعاف السطح، ومتاريسَ من أبنية دمرها هذا الجيش على رؤوس النساء والأطفال، وما استطاع النيل من الرؤوس التي يبحث عنها، لا على مستوى قيادات المقاومة الفلسطينية ولا رؤوس الرهائن.
ويكثر ترداد “الإسرائيليين” لمقولة ” أولادنا بطّ في حقول الرماية”، لتوصيف واقع عسكرييهم ومدنييهم على حدٍّ سواء، أولاً في تهوُّر القيادة السياسية وتحديداً بنيامين نتانياهو وفريقه، وثانياً في خذلان قياداتهم الإستخبارية والعسكرية منذ ما قبل موقعة 7 أكتوبر وما بعدها، وثالثاً في فقدانهم الأمل من تحقيق أي نصرٍ مزعوم، لأن ثمانية أشهر من التورط في قطاعٍ لا تتجاوز مساحته 360 كيلومتراً مربعاً، يؤشر إلى أن هكذا كيان لم يعُد قادراً لأن يكون لهم ذلك “الوطن الآمن” كما هُم يشعرون.
وهذا الرعب الإستباقي لدى الإسرائيليين، يُعيدنا إلى ما قبل غزة، والى ما قبل”هدهد المقاومة” الذي نفَّذ أوامر القيادة وطار إلى حيفا وربما الى ما بعدها، لأن هذا الرعب كان سائداً في المستوطنات الشمالية بعد العام 2000، وبات استيقاظ المستوطنين في منتصف الليل مذعورين، بداعي سماعهم أصوات حفر أنفاق تحت بيوتهم أمراً عادياً، وهم أنفسهم هؤلاء المذعورين على الدوام شأن شعور كل محتل، هربوا الآن من المستوطنات بلا عودة، دون أن تضطر المقاومة لإستخدام أنفاق، ما دامت قدراتها باتت تُحلِّق على أجنحة “الهدهد”.
ونحن لا نتناول واقعة “الهدهد”، لا من الناحية العلمية، ولا التقنية، ولا العسكرية ولا الإستخبارية، ونترك هذه الأمور لأهل الشأن، بل نتناولها كإنجاز وطني لهذه المقاومة العظيمة، ودرساً في الكرامة، تم الإعلان عنه في نفس اليوم الذي كان فيه المبعوث
الأميركي آموس هوكستين في بيروت، لأن كل مبعوث أميركي يزور لبنان، يبدأ زيارته بالمُقبِّلات، والمُقبِّلات لدى الأميركيين والغرب هذه الأيام، هي تسليح القوى الأمنية اللبنانية على اختلافها، ربما ليس بالألبسة والنواضير وناقلات الجند المُستهلكة، ولكن هي حتماً ليست مدرعات ولا مدفعية ولا مقاتلات ولا “هداهد”.
ومع عودة الهدهد من رحلته مُظفَّراً والحمدلله، حاملاً في جعبته الحصيلة المطلوبة من على بُعدِ 27 كيلومتراً من الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، انتهى دورنا كمتابعين لبنانيين، لأن الحصيلة باتت بأيدٍ أمينة شريفة، وبدأ دور المتابع “الإسرائيلي” في المستوطنة والشارع والبيت ومركز العمل، وفي الصحف والمواقع ومراكز الدراسات ومنابر التحليلات، والموضوع واحد: من هو هدهد؟ وكيف عَبَرَ هدهد؟ وبماذا عاد هدهد إلى موطنه؟!
ومع عودته، عاد المبعوث الأميركي إلى بلاده، بعد أن أوصل ما لديه من رسائل، وحمل الأجوبة اللبنانية المحسومة كما دائماً مع العدو “الإسرائيلي”، لكن الغريب، أن التحذيرات الدولية والإقليمية والداخلية، بأن أية حرب مع لبنان تعني نشوب حربٍ شاملة، وأن نهايتها هي نهاية الكيان “الإسرائيلي”، ما زال نتانياهو ومعه اليمين العنصري المتطرف يهدِّد بها إعلامياً واستعراضياً وسياسياً، وهو يدرك، أن حقل الرماية مع لبنان لا يرحم “البط” ولا يُخطىء المرمى.
المتابعون للفيديو الذي نشره الإعلام الحربي لحزب الله تحت عنوان: “ما رجِعَ به الهدهد”، اعتبروه رسالة من المقاومة، وهذا أمر طبيعي من أي إعلام حربي، ولتكن رسالة “الى مَن يهمه الأمر”، لأن الرسالة الأهم قد وصلت إلى العدو “الإسرائيلي” بمجرد وصول “هدهد” وعودته من المهمة بنجاح.
ومع اعتبار الإعلام “الإسرائيلي” أن هذا الأمر خرقٌ خطير، قال رئيس بلدية حيفا تعليقاً على الفيديو، أن حزب الله يحاول استخدام الإرهاب النفسي على سكان حيفا والشمال، وطالب الحكومة بوضع خطة دفاعية واسعة النطاق عن حيفا وإيجاد الحل العسكري لإزالة التهديد، فيما ذهبت وسائل إعلامية “إسرائيلية”، الى اعتبار الوثائق الجديدة التي حصل عليها حزب الله “أكثر إثارة للقلق منذ بداية الحرب، وفيها يمكن رؤية حيفا”.
المراسل العسكري للقناة 14 الإسرائيلية قال: “إن حزب الله ينشر وثائق غير عادية من عمق “الأراضي الإسرائيلية” ويعرض الأهداف حتى من ميناء حيفا والقاعدة البحرية”.
وأضاف هذا المراسل: “لقد تركت القدرة التي أظهرتها “منظمة” حزب الله فجوة واسعة بين العسكريين والأمنيين”، فيما أعلن الجيش “الإسرائيلي” أنه طلب من الصناعات الدفاعية وضع حل تكنولوجي يقدم اعتراضاً أفضل لمسيّرات حزب الله، وفقاً لما اوردته يوم الإثنين صحيفة يديعوت أحرونوت.
ومن مقتطفات الشارع “الإسرائيلي” تعليقاً على الفيديو، رأى البعض أن نجاح حزب الله بتصوير العمق العملياتي في إسرائيل، يدلّ على أن الحزب يمتلك ذراعاً قوية وطويلة يستطيع من خلالها الوصول إلى أماكن وأهداف إستراتيجية مهمة، وبإمكانه إلحاق دمار كبير بإسرائيل، فيما اعتبر آخرون، إلى أن دخول المسيّرات التجسسية لحزب الله عمق الأراضي “الإسرائيلية” ومسحها مناطق الشمال بسهولة، يُثبت عجز الرادارات وكافة أجهزة الرصد، ودخول القبة الحديدية في “سبات عميق”، وفق وصفهم.
ختاماً، إذا كان كابوس الأنفاق الإفتراضية يلاحق مستوطني الشمال منذ نحو ربع قرن، ويرون بأم العين الآن، فعل الأنفاق في قطاع غزة، فإن أية مواجهة مع لبنان قد تخطّت عصر الأنفاق، وخارطة الأهداف الشهيرة التي عرضها سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله منذ سنوات، وهو يشير بسبابته إلى كل موقع تحت عدسات الكاميرات، مطابقة حكماً لما جاء به “هدهد” وليعتبرها العدو الصهيوني تبادل تهديدات، والباقي شأن قيادة المقاومة والسلام…
المصدر: بريد الموقع