قبل خمسة أعوام، وبالتحديد في الثاني من كانون الثاني / يناير من العام ألفين وأربعة عشر، انطلقت معارك في الريفين الادلبي والحلبي ضد داعش، نجحت في طرد التنظيم من مناطق واسعة من أرياف اللاذقية وادلب وحلب، وكانت بداية ما يسمى في إعلام المسلحين بـ “الإقتتال الفصائلي”.
ومع بداية العام الحالي، انطلقت جولة جديدة من المواجهات بين هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) بزعامة أبو محمد الجولاني، وحركة نور الدين الزنكي – احدى مكونات ما يسمى “الجبهة الوطنية للتحرير” المدعومة تركياً، اثر هجوم الهيئة على بلدة دارة عزة في ريف حلب الغربي، لتتوسع هذه المواجهات وتشمل بلدات تقاد، خان العسل، بسطرون والأشرفية، في ريف حلب الغربي، وتمتد إلى بلدات عدة في جبل الزاوية، وأطراف مدينة سراقب في ريف ادلب، بعد إعلان الجبهة الوطنية النفير العام لـ “صد عدوان هيئة تحرير الشام”، بحسب نص البيان.
ميدانياً، سيطرت هيئة تحرير الشام على مدينتي دارة عزة وخان العسل، وجبل الشيخ بركات الهام، والمطل على قرى عدة في الريفين الادلبي والحلبي، كما سيطرت بحسب تنسيقيات المسلحين، على عدد من القرى أبرزها، كفرنتين، وفصلت بالتالي منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون.
الأسباب الحقيقية للقتال
وبدأت جولة القتال هذه، بعد مقتل 4 مسلحين من تحرير الشام، في قرية تلعادة بريف ادلب، برصاص قالت الهيئة إنه انطلق من دارة عزة المجاورة، والتي كانت تسيطر عليها حركة نور الدين الزنكي. ورغم التوصل إلى اتفاق بين الطرفين، لكن الهيئة اتهمت الحركة بخرق الإتفاق، وهاجمت المدينة وسيطرت عليها.
لكن ما وراء الأكمة ما وراءها .. مصادر معارضة عدة، أشارت أن الهدف الحقيقي لهجوم الهيئة على دارة غزة، هو موقع المدينة الإستراتيجي، التي تضم أعلى قمة مشرفة على الحدود التركية وهي قمة الشيخ بركات البالغ ارتفاعها ألف متر، كما للمنطقة فائدة اقتصادية، حيث أن من يتحكم بهذه المدينة، يستطيع فرض رسوم على المواد القادمة من تركيا إلى الأراضي التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة في ريفي ادلب وحلب، خصوصاً مادة المحروقات.
كما أن أهمية المدينة الإقتصادية ستزداد، بعد افتتاح المعبر الجديد في جنديرس غرب عفرين، وتوجه الأتراك لجعله ممراً للبضائع التجارية بدل معبر باب الهوى، وبالتالي تصبح المنطقة حلقة وصل بين عفرين وغرب حلب.
وتضع هيئة تحرير الشام نصب أعينها السيطرة أيضاً على معرة النعمان في ريف ادلب، الواقعة على طريق دمشق – حلب الدولي، وبالتالي التحكم في الممرات التجارية في مناطق الشمال السوري الخاضعة لسيطرة الإرهابيين.
وتحدثت تقارير إعلامية معارضة، أن هذه الموجهات، اندلعت بعد اجتماع تم منتصف الشهر الماضي، دعت إليه المخابرات التركية، وضم قادة الجماعات المسلحة في ادلب، بهدف إيصال رسالة من الرئيس التركي رجب طيب اردوغان إلى جميع الفصائل بضرورة الإندماج الكلي، وتشكيل جسم عسكري موحد.
وتحدثت مصادر مطلعة على الإجتماع، أن زعيم حركة نور الدين الزنكي توفق شهاب الدين، وأبو محمد الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام، كانا غير متحمسين لتلك الفكرة، ولم يعطيا جواباً واضحاً على المبادرة التركية.
حرب استئصال
وبالإضافة إلى الأسباب التجارية، تسعى الجماعات المسلحة في ادلب إلى الاستئثار بالسيطرة على المناطق، وبالتالي تقديم نفسها كممثل وحيد أمام الأتراك، ومن هنا كان تشكيل الجبهة الوطنية للتحرير العام الماضي، فيما تريد هيئة تحرير الشام، فرض نفسها كقوة أمر واقع في تلك المنطقة، مع الحفاظ على اتصالاتها مع الاتراك، الأمر الذي يشير إلى أن كلا الطرفين المتقاتلين، يريد تقديم أوراق الإعتماد إلى اللاعب التركي.
ومن هنا، انطلقت الدعوات من داخل الجبهة الوطنية للتحرير إلى القضاء على تحرير الشام، أو حلها والدخول تحت مظلة الجبهة، خصوصاً مع إصدار فتاوى شرعية أبرزها من المكتب الشرعي لألوية صقور الشام – أحد مكونات الجبهة، تدعو لقتال الهيئة “قتال بغي”، انطلاقاً من الآية الكريمة، “فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ”، وهذا ما لفت إليه أيضاً القائد العام لحركة أحرار الشام جابر علي باشا، حيث قال في معرض حديثه عن القتال مع هيئة تحرير الشام إن “من عدالة الحق الذي نسير خلفه، فإن الله قال عن الباغي: إنما بغيكم على أنفسكم”.
هذا وتتهم الهيئة حركة الزنكي بـ “نقض العهد”، و “الإفساد”، وهذا بدوره يعكس اصراراً على قتالها، حتى القضاء عليها. وفي هذه الأجواء المشحونة، نشرت تنسيقيات مقربة من تحرير الشام شريطاً مصوراً يظهر مشاركة القيادي المصري المدعو محمد ناجي والملقب بـ “ابو اليقظان” في معارك دارة عزة. ويعرف عن هذا الرجل تكفيره لفصائل الجيش الحر، كما أصدر فتوى قبل أسابيع قليلة بتحريم القتال مع “الجيش التركي” في شرق الفرات، بوصفه جيشاً علمانياً. كما يقود أبو اليقظان “العصائب الحمراء”، وهي احدى مجموعات قوات النخبة في هيئة تحرير الشام، والمكونة بغالبية مسلحيها من الأجانب، وتشارك بقوة في المعارك الحالية في ريف حلب الغربي.
ويشار إلى أن حركة نور الدين الزنكي كانت احدى الجماعات المؤسسة لهيئة تحرير الشام إلى جانب “جبهة فتح الشام – جبهة النصرة بعد فك الإرتباط بتنظيم القاعدة”، لكنها عادت وانشقت عنها في تموز / يوليو 2017، احتجاجاً على اصدار فتوى في المجلس الشرعي يجيز قتال حركة أحرار الشام، من دون الرجوع إلى كامل اعضائها.
بالمحصلة، تسعى هيئة تحرير الشام إلى قطع التواصل الجغرافي بين فصائل الجبهة الوطنية والحدود التركية، وبين مناطق درع الفرات وغصن الزيتون من جهة وادلب من جهة اخرى، والسيطرة التجارية والإقتصادية على مناطق ادلب وريف حلب، بهدف تحقيق ارباح اقتصادية مضاعفة، وسياسية وعسكرية في آن، خصوصاً مع اقتراب فتح الطرقات الدولية M4 و M5 الواصلين بين دمشق – حلب، واللاذقية – حلب، بموجب اتفاق سوتشي. فهل ستتدخل تركيا وتعيد ضبط الأمور بين الأطراف المتقاتلة، وإنقاذ الإتفاقات مع الجانب الروسي حول تلك المنطقة، أم أنها تفضل القضاء على هيئة تحرير الشام، من قبل الجبهة الوطنية المدعومة منها ؟ وهل تنجح هذه الجبهة بالقضاء على الهيئة ؟
المصدر: موقع المنار