لا يزال القلق في الساحل السوري يلقي بظلاله على المدنيين، في وقت لا توحي فيه الحلول المؤقتة التي اتخذتها الإدارة السورية الجديدة ببوادر انفراج قريب. بل إنها أقرب ما تكون إلى محاولة تجميل صورة الانفلات الأمني ذي البعد الأيديولوجي، مع ما يحمله من صبغة تطرفية سرعان ما أهدرت فعالية الجهود الدبلوماسية لإدارة دمشق، حيث أعادت لفت نظر الغرب إلى مدى قدرة الحكومة الجديدة على ضبط الفصائل المتطرفة.
في أحدث التطورات، شهدت مدينة الدريكيش حملة ترهيب واسعة تمثلت في افتعال اشتباكات وهمية، واستعراضات عسكرية، وإطلاق نار عشوائي على المنازل بذريعة تبديلات عسكرية. إلا أن شعارات الفصائل المسلحة تناقض هذا الادعاء، حيث تفيد مصادر محلية بأنها تضم مقاتلين من جنسيات مختلفة، وعادةً ما ترفع شعارات طائفية تهدد السلم الأهلي، وتدعو إلى قتل المنتمين للطائفة العلوية بحجة أنهم “فلول النظام”.
وأردفت المصادر أن ما يعزز فرضية انفلات الفصائل المسلحة وعدم خضوعها لقرار مركزي، هو جهلها بجغرافيا بعض مناطق الساحل السوري، ما أدى إلى توسيع دائرة الاعتداءات لتطال سكانًا من طوائف مختلفة. فضلًا عن أن ردود أفعالها العنيفة تجاه أي مطالبة بنبذ الخطاب الطائفي، وعدم سفك الدماء، تعكس رفضها لأي سلطة أو قانون، حتى بعد أن أصبحت جزءًا من وزارة الدفاع السورية.
لم يقتصر نزيف الدم على حملات المداهمات والقتل، بل امتد إلى نقض التعهدات الممنوحة للعسكريين السابقين الذين سُوّيت أوضاعهم. ففي حمص، تعرض الشاب ليث حوراني، وهو جندي سابق في الجيش السوري المنحل، للخطف من حاجز البياضة أثناء عودته من عمله المدني في دمشق، قبل أن يُعثر عليه مقتولًا، رغم حمله بطاقة تسوية الوضع.
وهذا يتناقض مع التطمينات الرسمية التي أطلقتها إدارة الشرع، عبر تشكيل لجنة السلم الأهلي للتحقيق في المجازر الممنهجة التي وقعت في الساحل السوري منذ 7 آذار، حيث كان من المفترض أن تتولى قوات “الأمن العام” مسؤولية ضبط الأمن، كخطوة نحو إعادة تشكيل الجيش السوري الجديد بعد إسقاط النظام.
بدد تعيين شخصيات متورطة في انتهاكات حرب ضمن الجيش السوري الجديد آمال إيجاد حلول حقيقية للمجازر ضد المدنيين. فقد أثار تعيين متزعم فصيل “الحمزات” – أبو بكر، قائدًا للفرقة 76، وقائد فصيل “العمشات” قائدًا للفرقة 25، قلقًا واسعًا، لا سيما أن هذين الفصيلين أنشأتهما تركيا عام 2018، ولعبا أدوارًا دموية في مناطق سيطرة الأكراد خلال الحرب السورية.
إضافةً إلى ذلك، شاركت هذه الفصائل في معارك خارجية لخدمة الأجندات التركية، من كاراباخ إلى ليبيا وإفريقيا، مما يعزز المخاوف من تأثير النفوذ التركي المتزايد في الملف العسكري السوري.
يزداد المشهد تعقيدًا مع تنامي النفوذ التركي في سوريا، عبر تعيين شخصيات موالية لأنقرة في مواقع عسكرية حساسة. وهذا يثير قلقًا داخليًا لدى السوريين، خاصة مع التصريحات الإسرائيلية الأخيرة حول مخاطر التمدد التركي في سوريا، وما قد يستدعيه ذلك من تحركات إسرائيلية استباقية.
في خطوة لافتة، وبالتزامن مع اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، قامت تركيا بنقل الفصائل المتورطة في مجازر الساحل السوري إلى مدينة رأس العين في الحسكة، عبر معبر قرية كشتو، وفقًا لمصادر محلية.
وفي سياق متصل، أفادت مصادر أهلية بأن رتلًا عسكريًا يتألف من مقاتلين أجانب تحرك من سهل الغاب في حماة، مرورًا بعين الكروم، ويُرجح أنه متجه إلى الساحل السوري. كما تم رصد تحشيد عسكري، ورفع سواتر ترابية، وإغلاق بعض مداخل المدن هناك.
بحسب التقرير الأولي للمرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن الجيش والأجهزة الأمنية السورية، التي تداعت إلى الساحل، ارتكبت خلال الأيام الثلاثة الأولى 25 مجزرة موثقة، راح ضحيتها 2246 شخصًا، معظمهم من الشباب.
كما لا تزال المعتقلات في حارم، وعدرا، وحماة تحتجز عسكريين سابقين كانوا في البادية أثناء تقدم فصائل “ردع العدوان”، ومنهم من عاد من العراق، ولا يزال مصيرهم مجهولًا، وسط تقارير عن تعذيب ممنهج، ومنع ذويهم من الاستفسار عنهم أو زيارتهم.
تشكل هذه التطورات تحديًا كبيرًا لحكّام دمشق الجدد، الذين يسعون لتحسين صورتهم دوليًا أمام الدبلوماسية الغربية، والتي لا تزال غير واثقة تمامًا في نوايا القيادة السورية الجديدة.
المصدر: بريد الموقع