“…المهنة: عميل صفوي، البلد: مملكة البحرين… الحكم: حد الحرابة”، هكذا صدرت فتوى القتل التي تلقاها نائب رئيس مركز البحرين لحقوق الانسان يوسف المحافظة أواخر العام 2013، مبررات الحكم كانت جاهزة وبلغة مرخصة من قبل السلطة: مفسد في الأرض يمارس التحريض على الحكومة ويشوّه صورتها في الخارج، ويدافع عن المجرمين.
الفتوى التي أعلنتها حركة التوحيد الإسلامي في البحرين، قرأ فيها المحافظة تهديداً جدياً دفعه إلى ترك وطنه، ليختار المنفى كتعبير عن تمسكه بانحيازه لشعب كبر بينه، فكبرت في ذاكرته صور التمييز والإقصاء والإلغاء. وخرج المحافظة من البحرين قاصداً ألمانيا، بعد سلسلة تهديدات بالقتل تلقاها عبر “تويتر”.
على مواقع التواصل الاجتماعي نشرت “حركة التوحيد الإسلامي” بياناً أفتت فيه بإقامة حد الحرابة على المحافظة. فنّدت الحركة التهم الموجهة للحقوقي البحريني:
· الخيانة العظمى
· محاولة قلب نظام الحكم
· التحريض
· التخابر مع الأنظمة الصليبية
· تأييد القتلة وعملاء النظام الصفوي
· تشويه صورة البلاد في الخارج
· الدفاع عن المجرمين والقتلة
· تزوير الحقائق وخلق غطاء حقوقي للانقلابيين
· إيواء والتستر على مجرمين
الحركة التي لم يُسمع باسمها يوماً في البحرين، أدرجت ضمن شعارها الراية التي يرفعها تنظيم داعش الإرهابي ونشرت في حسابها على موقع “يوتيوب”، صوراً لشخصيات من مختلف أطياف معارضة بحرينية على أنها أهداف ينبغي تصفيتها، بين هذه الشخصيات حقوقيون ومعتقلو رأي ونشطاء في الخارج منهم المحافظة.
أتت التهديدات بعد حملة قام بها البحرينيون للتعريف بقتلة أبنائهم، وبمصادري مطالب الحرية في جزيرتهم الصغيرة، كان المحافظة أحد المشاركين في الحملة وعمل بشكل نشط على نشر صور القتلة من خلال حسابه على “تويتر”. كانت تغريدات الحقوقي البحريني تستجلب عشرات رسائل التهديد، قبل أن تصدر الفتوى.
الحركة التي لا يعرف بها البحرينيون، لم تحمل خطاباً مغايراً عن ذلك المعتمد من قبل السلطة، خطاب “الكراهية” الذي خلّف ما يزيد عن ١٠٠ شهيد كان نفسه. الأدبيات كانت مستنسخة: التحريض، قلب النظام، والعمالة للنظام الصفوي… مصطلحات وتهم حوكم على أساسها رموز في المعارضة، استحضرتها الحركة الداعشية.
الخطاب الرسمي البحريني الذي أسس لخطاب الكراهية منذ قررت العائلة الحاكمة الاستحواذ على السلطة واستبعاد مكوّن أساسي في البلد، كان وراء اعتقال المحافظة 4 مرات قبل قراره الخروج إلى المنفى. عاقبت السلطة البحرينية الناشط المحافظة لانحيازه إلى إرادة العيش بكرامة، وعلى الأساس نفسه عاقبت السلطة شعباً بكامله وكل من انحاز لكرامة العيش.
أواخر الشهر الماضي، استضافت العاصمة اللبنانية بيروت مؤتمر “البحرين… حقوق رهن القيود”، حل الحقوقي البحريني يوسف المحافظة ضيفاً مشاركاً في فعاليات المؤتمر الذي نظمه منتدى البحرين لحقوق الإنسان، لم يكن المحافظة الناشط البحريني الوحيد في المؤتمر، إلا أن ما بدا لافتاً غياب أي مشاركة لنشطاء الداخل، عدا مسؤول قسم الحريات الدينية بمرصد البحرين لحقوق الانسان الشيخ ميثم السلمان الذي شارك برسالة مسجلة.
لماذا غاب نشاط الداخل عن المؤتمر الحقوقي الدولي الخامس المتعلق بقضيتهم؟ كيف هي أوضاع الجزيرة المعزولة أخبارها عن العالم؟ وما هو مستقبل حراكها المستمر رغم سنوات القمع الأسود الممتدة منذ خمس سنوات؟
بعد 5 سنوات من القمع الممنهج، لم يعد بإمكان الحقوقيين البحرينيين المشاركة في المنتديات والمؤتمرات الدولية لإبراز الأوضاع المتدهورة في بلادهم. أن تخرج لتنقل صورة الداخل البحريني، يعني أنك أمام خيارين: الاعتقال أو اللاعودة. في مقابلة مع موقع المنار، يوضح نائب رئيس مركز البحرين لحقوق الانسان أن التغريدة أو حتى نشر الصورة على “انستغرام” باتت تشكل تهمة كافية لإحالة أي بحريني إلى المحاكمة. “إبراهيم كريمي يحاكم بسبب صورة اسنتغرام، جليلة السيد أيضاً تحاكم بسبب تغريدة كتبتها على تويتر، الندوات والمسيرات ممنوعة، أكثر من 150 إخطار قدم للسلطة تم رفضهم، التظاهر والتغريد والاحتجاج السلمي ممنوع. إلى هذا الحد وصلت الأمور في البحرين، أي رأي مغاير لرأي العائلة الحاكمة في البحرين يتم اسكاته واخماده.”
“لماذا تنتقد الملك؟ لماذا تكتب؟ ولماذا تغرد؟” أسئلة باتت لازمة في أي تحقيق قضائي لمعتقلي الرأي في البحرين.
يدرك المحافظة كما غيره من النشطاء الموجودين في المنفى المسؤوليات الملقاة على عاتقهم في ظل سياسة خنق الأصوات في الداخل، يتنقل هؤلاء بين العواصم وعبر وسائل الاعلام والتواصل المختلفة ليحدثوا عن الدولة البوليسية المستحوذة على كل شيء جزيرتهم، يتحدث هؤلاء عن حكام بلادهم وكيف استفادوا من إغراق اليمن بالدم للتمادي في خياراتها الأمنية لاخماد المعارضة، وكيف استثمرت وقوف المجتمع الدولي إلى جانب السعودية لسحق كل من يقف بوجهها في الداخل، وكيف استقدمت جيوش الخارج لقتل أبناء البلد، وكيف استبدلت البحارنة الأقحاح بالأجانب، وكيف عمدت إلى سحب جنسيات أبناء البلد وتوزيعها بسخاء على الوافدين الباكستانيين والهنود والعرب وغيرهم.
يكفي أن يخرج البحريني ليحدث عن الممارسات الإرهابية المرخصة من قبل الحكومة في بلاده ليتحول إلى هدف للسلطة، والتهمة الجاهزة دوماً: “تشويه صورة البلاد في الخارج”. هكذا تم الحكم غيابياً على الحقوقية مريم الخواجة بالسجن لمدة عام، السبب نفسه قاد إلى سحب جنسية الناشط احمد الوداعي بسبب تنظيمه ندوات في لندن، وهو ما دفع عدداً من بلطجية السفارة البحرينية في لندن لضرب الناشطين والاعتداء عليهم، وهو ما يبرر إقدام السلطة على إحراق منزل المعارض البحريني سعيد الشهابي.
لم تجد السلطة حرجاً في إقدامها على كل هذه الممارسات، كانت عناوين ومبررات ضرب المعارضة حاضرة دوماً. مع بداية الحراك البحريني كان رمي المعارضين بتهمة الطائفية كافياً لشرعنة قتل المتظاهرين السلميين، اليوم تتمسك الرواية الرسمية البحرينية بمبرر آخر يلقى رواجاً عالمياً، إنها شمّاعة الإرهاب. يعمل الاعلام الرسمي البحريني على شرعنة الكراهية بالتطبيل لدعاية النظام وما يقدمه من مبررات، إلا أن ما يجري في غرف الاعتقال مختلف تماماً.
يروي يوسف المحافظة: “اعتقلتُ في البحرين لأكثر من شهر بسبب تغريدة ، والتحقيق معي جاء على خلفية نشاطي في تويتر. قالوا لي: إنك تشوه سمعة البحرين، ولكن التهمة التي وجهت إليّ في الإعلام أنّي قمت بأمور متعلقة بإثارة العنف والاضرار بالأمن العام. ولكن في الغرف المغلقة كان تهديدي وضربي يتم على أساس ما كتبته على تويتر. هذا ما تفعله السلطات في البحرين، تقول في الإعلام شيء، وخلف القضبان ستجدون أن الرواية مختلفة تماماً.”
على مدار سنوات النضال الخمس، نجح العمل الحقوقي في البحرين في تثبيت الرواية البحرينية التي تم التعتيم عليها بشكل كبير، كسر الحقوقيون البحرينيون جدار التعتيم وتمكنوا من إيصال الصورة البحرينية إلى الخارج، إلا أن أياً لم يستجب لصرخات الحرية. يقول نائب رئيس مركز البحرين لحقوق الانسان إن “النضال الحقوقي كما النضال السياسي والشعبي يتطلب وقتاً. وخمس سنوات ليست بالزمن الكبير لتغيير واقع، خصوصاً إذا ما عرفنا حجم العقبات التي تواجهنا ، نحن في البحرين لا نواجه نظام البحرين فقط بل دول الخليج التي تخشى من انتقال الديمقراطية إلى داخلها”.
عندما افترش البحرينيون ساحاتهم عام 2011، فُتحت الحدود البحرينية أمام آليات عسكرية التي كانت تقل قوات الأجنبية. كان المطلوب سحق من تجرؤوا على المطالبة بحقوقهم السياسية. كانت رسالة غير معلنة للبحرينيين مفادها: لوطالبتم بالديمقراطية سنسحقكم، لن نقبل بغير الممالك في الخليج، ولن نسمح بأي حكم مستقل. قرأ البحرينيون الرسالة جيّداً، وكانوا يعلمون الدور الذي لعبته كل من الولايات المتحدة وبريطانيا ورفضهما لنموذج ديمقراطي في البحرين، إلا أن إطلاق اليد في قمع الشعب لم تُفرغ ساحات البحرين.
حجم التضحيات التي قدمها البحرينيون عام 2011 رسخت قناعة لدى الجميع “أننا في البحرين قطعنا تذكرة إلى الديمقراطية دونما عودة” وفق تعبير رئيس مركز البحرين لحقوق الانسان نبيل رجب. قدم البحرينيون أكثر من 100 شهيد وأكثر من 4 آلاف معتقل، هُدمت المساجد وسُحبت الجنسيات، وهم باتوا أكثر قناعة أن العودة إلى الوراء ولو خطوة واحدة تعني أنهم سيسحقون بالكامل، يقول السيد يوسف المحافظة: نحن ماضون إلى الامام وتعويلنا الأساس على الناس في الداخل التي تفترش الشوارع كل يوم… سنفضح نفاقهم، ونفاق الدول الغربية سنعرّف الجميع بما يجري من انتهاكات في البحرين”.