بصرف النظر عن الجلسة الأولى لانتخاب رئيس للجمهورية، وحتى الجلسات التي سوف تليها، فإن إجماع غالبية الكتل النيابية على وجوب التوافق، لن يمنع في أجواء الكباش السياسي الحاصل المزيد من التجاذب في الفترة المقبلة لثلاثة أسباب واضحة:
أولاً: الفريق الذي يعتبر نفسه في صفوف المعارضة يُراهن على راعٍ دولي أو إقليمي لإستيلاد رئيس، وهذا منطق غير واقعي، لأن الدول الغربية والشرقية، وتحديداً الإقليمية منها، لديها مشاكلها ومشاغلها الداخلية الضاغطة نتيجة الأوضاع المالية والإقتصادية التي تسود العالم بأسره، وبالتالي هذا الراعي غير متوفِّر.
ثانياً: حتى لو توفَّر راعٍ دولي أو إقليمي، عبر سفيرة من هنا وسفير من هناك، فإن “السيادة المستوردة” التي يحاول البعض التسويق لها تعني اختيار شخصية برتبة ممثل للمندوب السامي، بما يعني أن صاحب هذه الشخصية هو على الأقل “نصف وطني”، كي لا نستخدم توصيفاً آخراً.
ثالثاً: هناك من يُنادي بمرشح خصم للمقاومة، مع ان المقاومة لم تبادر الى طرح مرشح حتى الآن.
ولا شك أن الوضع في لبنان اليوم يتطلب رئيساً بمستوى “رجل المرحلة”، لمواكبة الأزمات الداخلية التي تعصف بالإقتصاد والوضع المعيشي العام، إضافة الى الإستحقاق الخارجي المرتبط بترسيم الحدود البحرية مع العدو.
ومن قبيل المصادفة، أن القاسم المشترك بين لبنان وهذا العدو، أننا في أجواء إنتخاب رئيس وتشكيل حكومة، وكيان العدو مُقبلٌ على انتخابات تشريعية، فيما ينقسم الشارع الإسرائيلي إنتخابياً حول الإتفاق على ترسيم الحدود، والصراع الإنتخابي يدور داخله بضراوة بين رئيس الحكومة الحالي يائير لابيد ومعه الرئيس البديل نفتالي بينيت من جهة، ورئيس الحكومة السابق بنيامين نتانياهو الذي يعارض إتفاق الترسيم من جهة أخرى، مع انقسام في الشارع الإسرائيلي، بين مؤيدين لهذا الإتفاق ومعارضين له.
وفيما المعركة الإنتخابية في إسرائيل قائمة، بين مَن يعتبر مشروع الإتفاق من مصلحة الكيان أمنياً واقتصادياً، وبين مَن يعتبره نصراً للبنان ولم تجنِ منه إسرائيل سوى الفُتات، لا بل إنه هزيمة جديدة أمام لبنان، نجد البعض في المقلب اللبناني يخوض معركة الإنتخابات الرئاسية وكأن الشعب يعيش الرغد، مع تجاهل استحقاق المواجهة المحتملة في حال كانت الشياطين كامنة في التفاصيل التي قد تؤجل الإتفاق على الترسيم، من خلال الملاحظات النهائية التي أرسلها لبنان الى الوسيط الأميركي من جهة، والشعور بالخيبة والهزيمة لدى شريحة من الشارع الإسرائيلي من جهة أخرى، بما يعني في لبنان وجوب التوافق على “رجل المرحلة” لكرسي بعبدا لإدارة المرحلة.
ومع غياب حق الإستفتاء الشعبي في لبنان، فيما العدو يواصل استفتاء مستوطنيه، فإن الإستياء لدى الشعب اللبناني المسحوق والمقهور، لا ينتظر استفتاءً للتعبير عن ذلك، ليس لأن الفراغ الرئاسي مُحتمل، بل لأن تشكيل حكومة مؤهلة دستورياً لإستلام مهام الرئيس لا يحصل، لأسباب لم يعُد هذا الشعب مهتماً بتفاصيلها، وبدلاً من استغلال الوحدة الوطنية التي تحققت لتحقيق نصر الترسيم، نذهب إلى الإنقسام حول دستورية هذه الحكومة أو تلك لتغطية الفراغ الرئاسي، بانتظار رئيس توافقي نلتقي عليه في منتصف الطريق ويكون لبنانياً كامل الوطنية، وليس شخصاً صُنِع في سفارة ويحمل دمغة “نصف وطني”…