التطلع الی تشكیل (الامة الاسلامیة والواحدة) و (نشوء الحضارة الاسلامیة المعاصرة)، بمثابة احد الأهداف الكبری، كان مشهوداً منذ الایام الأولی لانتصار الثورة الاسلامیة في تصریحات وخطابات قادة الثورة، حتی أن دستور الجموریة الاسلامیة الایرانیة یتحدث عن اهداف تأسیس الحكم الاسلامي مشیراً بصریح العبارة الی (تشكیل المجتمع الاسلامي النموذجي) و (تشكیل الامة العالمیة الواحدة).
وثمة تأكید في مقدمة دستور الجمهوریة الاسلامیة یوضح: “لقد نفض شعبنا عن نفسه ـ خلال حركة تكامله الثوري ـ غبار الطاغوت وآثاره وأزال من ذهنه الآثار الفكریة الاجنبیة، حیث عاد الی الاصول الفكریة والی النظرة الاسلامیة الأصیلة للكون والحیاة، ویسعی الیوم الی بناء مجتمعه النموذجي (الأسوة)، معتمداً علی المعاییر الاسلامیة… ونظراً للمحتوی الاسلامي للثورة الاسلامیة في ایران، التي كانت حركة تستهدف تحقیق النصر لجمیع المستضعفین علی المستكبرین، فان هذا الدستور سیوفر الظروف لاستمراریة الثورة داخل البلاد وخارجها، خصوصاً بالنسبة لتطویر العلاقات الدولیة، حیث یسعی مع سائر الحركات الاسلامیة الجماهیریة الی تشكیل الامة العالمیة الواحدة (إنا هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)”.
لا شك ان تحقیق اهداف الثورة الاسلامیة الرامیة الی تشكیل الامة العالمیة الواحدة وإنشاء الحضارة الاسلامیة المعاصرة، عملیة طویلة ومعقدة. وفي هذا الصدد تطرق قائد الثورة المعظم لأول مرة الی الخطوات التي تستغرقها عملیة تحقق الحضارة الاسلامیة المعاصرة بتاریخ ٢١/٩/١٣٧٩ شمسي، (١٢/١٢/٢٠٠٠ م) وذلك في كلمة لسماحته في جمع من المسؤولین والخبراء في النظام الاسلامي، موضحاً: (لقد قمنا بثورة اسلامیة. ومن ثم عملنا علی تأسیس النظام الاسلامي. وكانت الخطوة التالیة تشكیل الدولة الاسلامیة، ومن ثم إنشاء الحضارة الاسلامیة الدولیة). ویری سماحته أن الخطوات العملیة لتحقق اهداف الثورة الاسلامیة تتمثل بما یلي:
-اندلاع الثورة الاسلامیة
– تأسیس النظام الاسلامي
– تشكیل الحكومة الاسلامیة
– إقامة الدولة الاسلامیة
– معالم العالم الاسلامي (الأمة ـ الحضارة)
-اندلاع الثورة الاسلامیة
الخطوة الاولی تحققت باندلاع الثورة الاسلامیة. وتقسم الثورة الاسلامیة بخصائص وسمات اقتصرت علیها وحدها ومیزتها عن ثورات العالم الأخری. ویلفت الامام الخامنئي الی جانب من الخصائص الذاتیة للثورة الاسلامیة ومنها:
التمتع بدعامة قویة من الفكر والفقه الشیعي علی مدی الف عام
الثورة الاجتماعیة الشاملة مقرونة بتحول اساسي في حیاة الافراد
الاستعانة بالتوجه القیمي والتحرك الاصلاحي الهادف للتصدي الی المفاسد العالمیة والبشریة
اعتماد النظم والانضباط الثوري
ومع الأخذ بالاعتبار هذه الخصائص،ان الثورة الاسلامیة كانت بمثابة تجلي للمفاهیم الاسلامیة والالهیة، واحیاءً للاسلام من جدید. وفي هذا الصدد یوضح سماحة القائد:
كانت الثورة بمثابة توجهاً اسلامیاً وربانیاً. واننا ننظر الی الثورة باعتبارها تحولاً اخلاقیاً و ثقافیاً وعقائدیاً، یتبعها تحول اجتماعي واقتصادي وسیاسي، وبالتالي تنامي الجوانب الأخری لأبعاد الانسان. وكما نص القرآن الكریم (ان الله لایغیّر مابقوم حتی یغیروا ما بأنفسهم) (الرعد، ١١). ومن أجل انطلاقة هذه الحركة وتحقق التحول الشامل، لابد للانسان من الشعور والاحساس بالتكلیف. ویری سماحته ان الثورة كانت بمثابة ضرورة طبیعیة في ضوء السنن الإلهیة. وتوضیح ذلك هو أن نظام الوجود باعتباره مظهراً وتجلیاً للارادة والمشیئة الالهیة، یشتمل علی قوانین و سنن لاتقبل التغییر او الاستبدال. وسواء اراد الانسان ذلك أم لم یرد، ورضي اصحاب القوة ام لم یرضوا، فلا مناص من تحقق هذه السنن، ولاشك ان احدی هذه السنن تتجلی في غلبة الحق وانتصاره علی الباطل.
ویضیف سماحته: أری أن الثورة الاسلامیة كانت بمثابة ضرورة لنصرة الاسلام، وحاجة ماسة بالنسبة للمسلمین، وكانت بمثابة سنّة إلهیة للذود عن الاسلام وصیانة الاحكام الالهیة. اما الموضوع الآخر فهو أن الثورة الاسلامیة هي حدث تاریخي ولیس حدثاً اقلیمیاً. اساساً أن الثورة، اي ثورة، في جغرافیا الانسان هي كالزلزال والبركان في الجغرافیا الطبیعیة. وكما هو واضح أن الزلزال والبركان بلحاظ مبدأ الحدوث، ینتج عن تكدس طاقات طبیعیة متعددة. وهكذا بالنسبة للثورة في جغرافیا الانسان، فهي ولیدة تكدس طاقات الغضب الانساني وانفجار هذه الطاقات.
كلما كان نداء الثورة اكثر استقطاباً، استحوذ علی المزید من الاهتمام والدعم والاقتضاء. وان الثورة الاسلامیة في ایران التي كانت میزتها الاسلاسیة اعتمادها الرؤیة الكونیة الاسلامیة، اندلعت فيوقت فقدت فیه الحركات اللیبرالیة والاشتراكیة بریقها. وعلی الرغم من أن الكثیر من المفكرین كانوا یروجون الی أن الایدیولوجیة الشیوعیة وحدها القادرة علی تعبئة الجماهیر، غیر أن الثورة الاسلامیة للشعب الایراني برهنت للعالم بأسره أن الاسلام هو اكثر الایدیولوجیات قدرة علی تعبئة الجماهیر. وبعبارة أخری ان الثورة الاسلامیة الایرانیة خلقت جبهة جدیدة امام كل المظلومین والمحرومین الذین یعانون من ظلم واضطهاد الحضارة الغربیة الاستعماریة المفروضة، وان شعار لاشرقیة ولاغربیة الذي رفعته الثورة الاسلامیة، بلغت الی رفض الثورة لكل انواع الظلم والجور الذي یمارس ضد البشریة.
تأسیس النظام الاسلامي
النظام الاسلامي الذي یتحدث عنه سماحة القائد باعتباره الخطوة الثانیة في بلورة الحضارة الاسلامیة الحدثیة، یتحقق بعد الثورة الاسلامیة مباشرة. ویری الامام الخامنئي أن تأسیس النظام الاسلامي یعني تحقق اسلامیة البناء العام للمجتمع. وفي ضوء تدوین دستور الثورة الاسلامیة، الذي یمثل الوثیقة الرئیسیة والمحوریة للجمهوریة الاسلامیة، تتحدد في الحقیقة اركان المجتمع الاسلامي. ویعد هذا القانون، الذي هو تبلور للقیم الاسلامیة وتم تدونیه بما یتطابق والاحكام الاسلامیة، یعد بمثابة العمود الفقري للنظام الاسلامي والجهاز العصبي بهذا النظام.
وتتلخص فلسفة وجود الخطوة الثانیة، اي تأسیس النظام الاسلامي، نظراً لما یترتب علی ذلك ومنه:
ـ تطبیق العدالة الاجتماعیة وتوزیع عادل للثروة.
ـ تحقق الاستقلال والحریة.
ـ احیاء القیم الاسلامیة. وفي هذا الصدد یعتبر الامام الخامنئي قیام الجمهوریة الاسلامیة یهدف الی احیاء قیم الاسلام وبعثة الرسول الاكرم(ص). ویوضح سماحته: ان الأمر الهام الذي قام به امامنا العظیم علی صعید العالم الاسلامي یتمثل في احیاء ابعاد الاسلام السیاسیة والاجتماعیة.
ـ مقارعة الاستكبار. إذ یری سماحته ان احد المبادی الرئیسیة للجمهوریة الاسلامیة یتجلی في مقارعة الاستكبار، وكان شعار الحكم الاسلامي منذ اللحظات الاولی، التصدي للغطرسة الدولیة والنزعة السلطویة.
ـ نشر الاسلام واشاعة المفاهیم الاسلامیة والتمهید لنشوء الحضارة الاسلامیة الحدیثة.
ـ الارتقاء بالقیم الاخلاقیة.
ـ تحقیق الرخاء العام والرفاهیة.
ـ بناء الانسان
تشكیل الحكومة الاسلامیة
بعد تأسیس النظام الاسلامي، ننتقل الی تشكیل الحكومة الاسلامیة بالمعنی الحقیقي. الحكومة هنا بمعناها العام، اي السلطات الثلاث والاجهزة والمؤسسات الحكومیة ومنتسبیها. اما اسلامیة الحكومة فالمراد بها مطابقة مشخصات المسؤولین ورجال الدولة للضوابط والمعاییر التي ینص علیها بالنسبة للمسؤول في الحكومة الاسلامیة. وهذا یعني أن توجهات المسؤولین وكافة المنتسبین للحكومة، وسلوكهم الاجتماعي وارتباطهم مع ابناء الشعب وعلاقاتهم مع الانظمة السیاسیة والنظام الدولي الحاكم، تكون مطابقة للمعاییر الاسلامیة كي یتسنی تحقیق اهداف الثورة الاسلامیة، وبعبارة اوضح أن یكون نهجهم وسلوكهم اسلامیاً حقاً. ولایخفی ان الحكومة الاسلامیة المتكاملة بالمعنی الحقیقي للكلمة، تقام في عصر (الانسان الكامل). غیر أن ذلك لاینفي محاولة الاقتراب من الهدف المنشود، ونحن الیوم نعیش هذه المرحلة التي هي اكثر صعوبة وتعقیداً في المراحل السابقة. فاذا مااضحت الحكومة اسلامیة بالمعنی الحقیقي للكلمة، عندها یكون البلد اسلامیاً بالمعنی الحقیقي ویصبح أسوة وقدوة (كونوا دعاة لنا بغیر ألسنتكم)، وتستقرالعدالة ویزول التمییز، وتستأصل جذور الفقر بالتدریج، وتتحقق العزة والكرامة الحقیقة لأبناء الامة، والارتقاء بمنزلة الامة الاسلامیة في الساحة الدولیة. وفي ظلال البلد الاسلامي یتشكل العالم الاسلامي. فما أن تتحقق الاسوة والقدوة تتكاثر نظائرة علی صعید البلاد الاسلامیة.
الحکومة الاسلامیة تستند الی مبادی وقیم، ولدیها معاییر ومشخصات خاصة بها، فاذا ما ظهر وتجلی كل ذلك یمكن أن یطلق علیها حكومة اسلامیة. وفي ضوء توجهات سماحة القائد یمكن الاشارة الی هذه المعالم:
المعلم العقائدي والاخلاقي
العدالة
سیادة القانون
الحكمة والعقلانیة
إقامة الدولة او المجتمع الاسلامي
بعد تشكل الحكومة الاسلامیة، تتضح ثمرتها في تلألؤ واضاءة النظام الاسلامي. بمعنی ان العمل الرئیسي الخاص بالحكومة الاسلامیة یفضي الی (تأسیس البلد الاسلامي) الذي یعد بمثابة المرحلة الرابعة لمسیرة تحقق الثورة الاسلامیة. وفیما یتعلق بتحقق الخطوة الرابعة یوضح سماحة القائد: اذا ما اضحت الحكومة حكومة اسلامیة بالمعنی الحقیقی للكلمة، عندها یصبح البلد بلداً اسلامیاً بكل ما تعنیه الكلمة من معنی، ویتم ارساء العدالة والتخلص من التمییز، حیث تستأصل جذور الفقر والحرمان بالتدریج، وتتحقق العزة والكرامة الحقیقة للامة، والارتقاء بمكانتها في الساحة الدولیة، وبالتالي تتجلی الصورة الحقیقة للبلد الاسلامي
إنشاء وبلورة الحضارة الاسلامیة
وفقاً لرؤیة الامام الخامنئي، أن الخطوة التالیة التي تلي تأسیس المجتمع الاسلامي، تتمثل بضرورة العمل لبلورة الحضارة الاسلامیة. اذ یمكن تشكیل العالم الاسلامي (الحضارة الاسلامیة) من البلد الاسلامي. وما أن یتجلی النموذج والأسوة حتی تتشكل نظائره في انحاء مختلفة من العالم. ویری سماحته أن الحضارة الاسلامیة بمثابة مناخ بوسع الانسان أن ینمو ویرتقي معنویاً ومادیاً في ظل هكذا مناخ ویترجم الغایات المنشودة التي خلقالله تعالی الانسان لأجلها. وبشكل عام المراد من الحضارة الاسلامیة هو كافة انجازات ومكتسبات المسلمین في مختلف المجالات الاقتصادیة والثقافیة والدینیة والاجتماعیة والاخلاقیة والمادیة المعنویة، فضلاً عن الاختراعات والاكتشافات التي انطلقت منذ عصر الرسول الاكرم(ص) وعمت البلاد الاسلامیة بدءاً من الحدود الغربیة للصین وانتهاءاً بالاندلس. ویؤكد سماحة القائد علی الدوام، ان اصلاح العالم یستلزم اصلاح الذات، ویقول في هذا الصدد: اذا ما تأسس البلد الاسلامِي، تنشأ الحضارة الاسلامیة، وعندها تعم الثقافة الاسلامیة اجواء البشریة جمعاء. وكل ذلك ممكن في ظل المراقبة المعنویة والتقوی العملیة. تقوی الفرد وتقوی الجماعة والامة.
المصدر: موقع المنار