قد يبدو للمتابعين، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أقدر من الأميركيين والغرب على إقناع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالمشاركة في الحرب على داعش، لكن الواقع أن أردوغان الذي عجَّل بزيارة روسيا التي كانت مقررة في أيلول/ سبتمبر المقبل قد وصل إليها مستسلماً ويبحث لنفسه عن حلّ، كي يبقى في المعادلة الإقليمية ضمن الحدّ الأدنى، مع فارقٍ وحيد أنه لا يستطيع ممارسة المراوغة مع “الدبّ الروسي” كما مارسها مع “الكاوبوي الأميركي”.
جهود الوساطة لإسترضاء روسيا، بدأها الرئيس أردوغان مباشرة بعد إسقاط الطائرة الروسية، ووفق ما ذكرت صحيفة “حرييت” التركية، فإن رئيس الأركان التركي خلوصي أكار، ورجل الأعمال التركي جويت تشاغلار، ورئيس كازاخستان نور سلطان نزاربايف، هم من قاموا بدور الوساطة في استئناف العلاقات بين روسيا وتركيا، بعد وقوع حادث الاعتداء على الطائرة العسكرية الروسية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لكن محاولة الإنقلاب الفاشلة في تركيا، والتي على أثرها قام أردوغان بأوسع عملية تطهير داخلي، لا بُدَّ وأنه يستكملها بمحاولة تطهير خارجي لنفسه وسمعته الشخصية، ولم يكُن أمامه سوى روسيا، وقد قال “فادي هاكورا”، الخبير بالشؤون التركية لدى مركز تشاثام، “إن زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان إلى روسيا للقاء الرئيس فلاديمير بوتين، جاءت بدافع اليأس”، ومهَّد لها أردوغان برسائل الودّ المُبالغ فيه حين أبدى الرغبة بفتح صفحة بيضاء مع من أسماه “العزيز والمحترم والصديق بوتين”.
اليأس، الذي وضعه “فادي هاكورا” عنواناً لزيارة أردوغان الى روسيا، هو التوصيف الصحيح، للأسباب التالية:
1) إن أردوغان المُنتخَب من 52% من الشعب التركي، هو قبل محاولة الإنقلاب، على خصومة مع نصف شعبه، بسبب جموحه للوصول الى نظام رئاسي يجعله السلطان المُطلق الصلاحية، ويُضاف الآن الى هذه الشريحة من الخصوم، عشرات الآلاف ممن أقصاهم من الشرطة والجيش والقضاء والتعليم والمؤسسات الحكومية، إما لمشاركتهم في الإنقلاب، وإما لأنهم متَّهمون بالتبعية الدينية والسياسية للمُعارض القوي فتح الله غولن، المطلوب استرداده من أميركا “حيّاً أو ميتاً” بنظر أردوغان، ويبدو أردوغان وكأنه رمى في الشارع آلاف العائلات التركية المنبوذة التي لن تسكت على الظلم.
2) قضية الأكراد تتفاعل تصاعدياً جنوب تركيا، لدرجة أن مناطقهم باتت أشبه بكانتونات “حُكم ذاتي”، وتدخل إليها الشرطة التركية وكأنها جبهات حربٍ مفتوحة على النظام وتشهد مواجهات شبه يومية، وسيطرة الأكراد السوريين على المناطق الحدودية مع تركيا، وأهمها القامشلي والحسكة وعامودا ورأس العين وعين العرب وصولاً الى جرابلس وعفرين، تجعل من هذه المناطق وكأنها نواة دولة “كردستان الصغرى”، التي تُبارك أميركا نشأتها منذ عقود، و يُحاول أردوغان منع قيامها سواء بالقتال اليومي للأكراد أو بابتداع فكرة “المنطقة الآمنة” شمال سوريا، لإستخدام داعش فيها لمماحكة النظام السوري، ولتمزيق “المنطقة الكردية” وقطع تواصل المُدن والبلدات مع بعضها من القامشلي وصولاً الى عفرين لإنهاء الحُلم الكردي الذي يُشكِّل بالنسبة إليه الكابوس الأكبر.
3) العلاقة التركية مع أميركا هي في أقصى درجات الفتور، منذ أعلنت واشنطن في 16 آب / أغسطس من العام 2015، بأنها لن تقوم بتجديد مهمة بطاريات الصواريخ الموجودة على الأراضي التركية، التي كانت ستنتهي في تشرين الأول / أكتوبر من العام نفسه، وأعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية “جيف ديفيس”، أن “سبب سحب الصواريخ هو تراجع الحاجة إليها”، إضافة الى أن أميركا تعتبر أردوغان ذاك الحليف غير الجدِّي في مكافحة الإرهاب.
وبات اعتبار تركيا كعضو في حلف الناتو موضع “تقييم جدوى”، خاصة بعد قرار الحكومة الالمانية سحب صواريخ الباتريوت، حيث أعلنت وزارة الدفاع الالمانية عن إنهاء مهمتها في تركيا، وسحب قواتها المرافقة لبطاريات الصواريخ مع نهاية شهر كانون الثاني/ يناير من العام الحالي، مبررة ذلك بانخفاض مستوى التهديدات والكلفة المرتفعة للعملية، وأن الخطر الرئيس في المنطقة أصبح تنظيم داعش.
4) العلاقة التركية مع الإتحاد الأوروبي هي الأسوأ، لأن ضخّ مليون مهاجر من تركيا الى دول الإتحاد استوعبته أوروبا مبدئياً، وتقاضى أردوغان ثلاثة مليار دولار للتعاون في وقف التدفُّق، سيما وأن العمليات الإرهابية في باريس وبروكسل وبعض المدن الألمانية، جعلت الحكومات والشعوب الأوروبية أقل حماسة من الناحية الإنسانية لإستقبال المزيد من اللاجئين، وانعكست هذه العمليات الإرهابية سلباً على مشروع دراسة ضمّ تركيا الى الإتحاد الأوروبي، نتيجة انتشار “الإسلامو- فوبيا” بين الأوروبيين من جهة، وعدم تطبيق أردوغان المعايير القضائية والإصلاحات القانونية المطلوبة لتأهيل تركيا للإنضمام من جهة أخرى، خاصة بعد مشهدية ذبح تركي على جسر البوسفور/ الشهداء على يدّ أنصار حزب العدالة والتنمية خلال محاولة الإنقلاب، وحديث أردوغان لاحقاً عن رغبته بتطبيق عقوبة الإعدام بحق الإنقلابيين، وتوجيهه عدة رسائل إزدراء للديموقراطية الأوروبية ومنظمات حقوق الإنسان، والتهديد بنقض المعاهدات مع الإتحاد الأوروبي في حال تباطأت الدولة الأوروبية في إعفاء الأتراك من تأشيرة الدخول إليها.
5) إستمرار العقوبات الروسية على تركيا، وتراجع حجم التبادل التجاري بين البلدين من 53 مليار دولار الى 28 مليار دولار بعد حادثة الطائرة، وانكفاء نسبة من السائحين الروس عن زيارة تركيا رغم رفع الحظر الذي أعلنه الرئيس بوتين مؤخراً بعد تلقِّيه إعتذار أردوغان، لأن المدن التركية ما زالت عُرضة لأعمال إرهابية، وتشهد ردَّات فعل دموية بعد إفشال محاولة الإنقلاب، وتتصاعُد صرخات مُعلنة من رجال الأعمال والمستثمرين في أنقره بوجوب مقايضة سوريا بإقتصاد تركي قوي مدعوم روسياً.
6) إنهيار أحلام أردوغان في إسقاط نظام الرئيس الأسد، بعد أن أجمعت كلُّ من أميركا وأوروبا وروسيا أن الحلّ في سوريا هو سياسي، وأن البديل عن الأسد هي فوضى الغوغائيين الإرهابيين القادمين من 93 بلداً والذين سيقرعون أبواب أوروبا لاحقاً ويفتحون عليها أبواب الجحيم.
على وقع كل هذه التحديات التي يواجهها أردوغان، حَزَم حقائبه الى سان بطرسبرغ وهو يُدرك، أن رحلته سوف تستفزّ أميركا والغرب، وإذا كان أردوغان قد فاخر بأن مفتاح حلب في جيبه، فإن تسليمه مفتاح حلب الى الرئيس بوتين فور هبوط طائرته هو أحد أهم شروط استقباله، وإذا كانت المحادثات الفورية تناولت تعزيز التعاون الثقافي والإقتصادي وإنشاء صندوق مشترك ورفع حجم التبادل التجاري الى مئة مليار دولار، وتنسيق التعاون العسكري بين الجيشين الروسي والتركي، وتلزيم روسيا إنشاء محطة نووية في تركيا، فإن حلب ورفع اليد التركية عنها هي أول الغيث لنتائج هذه الزيارة، والتي سيليها وفق ما أعلن الرئيسان لقاءات بين لجان عسكرية مشتركة بإشراف وزيري دفاع البلدين، وتبقى سورية هي المحور الأساس للتقارب الروسي التركي، ولا عودة للعلاقات وتعزيزها سوى بإعلان “السلطان” التوبة الكاملة بحضرة “القيصر” عن التدخُّل السلبي في سوريا، وأن ينصاع طائعاً مختاراً الى الشروط الروسية بالمشاركة الفعلية في محاربة الإرهاب…
المصدر: موقع المنار