“سلام عليكم… إيرانيان عزيز” باللغة الفارسية استهل رئيس المخابرات السعودية السابق تركي الفيصل الخطاب الذي ألقاه خلال حفل أقامته منظمة خلق السبت الماضي في باريس. وللمفارقة افتتح الأمير السعودي خطابه ممتدحاً الفرس الذين يصورهم الخطاب السعودي على أنهم كفرة “مجوس”! قبل أن يلجأ إلى استعارة الأدبيات الإسلامية الشيعية: ” اللهم عجل ظهور الامام المهدي”.
قال الفيصل إنه لا يجد ما يفتتح به خطابه أفضل من الحديث النبوي الذي امتدح فيه الفرس:”عندما نزلت سورة الجمعة على النبي ولما قرأ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله… فرد (ص) وفينا سلمان الفارسي فوضع النبي يده على سلمان ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء… يوضح هذا الحديث مجموعة حقائق سياسية عن التاريخ والهوية الفارسية، ويمكن أن يعد شهادة في حق التراث الفارسي”.
ذكّر الأمير السعودي أن الفرس كانوا من أوائل الموحدين قبل اعتناقهم الاسلام. وأضاف أنه في الوقت الذي كانت أوروبا تعاني التخلف والجهل، أبرزت خراسان كثيراً من العلماء والرياضيين والفقهاء والشعراء المسلمين الذائعي الصيت منهم: الغزالي وابن سينا وعمر الخيام.
سعى الفيصل في خطابه إلى استمالة ود جمهور لا يرى في مملكة آل سعود إلا صورة عن البداوة في القرن الواحد والعشرين. وخطاب الفيصل بدا مؤكداً أنه لم يُصَغ بأي قلم سعودي، وقد فضح ذلك إشادة الفيصل بـ “ملحمة الملوك” للشاعر فردوسي.
27 دقيقة… عاش خلالها الأمير السعودي انفصاماً حقيقياً مع نفسه ومع من يمثله لناحية الخطاب والأدبيات التي تربى عليها السعوديون للتحريض ضد إيران،هاجم تركي الفيصل الشاه وديكتاتوريته وعنجهيته وعمليات القمع التي كان يمارسها بوليسه السري، مبرراً دوافع الثورة الإيرانية ضد “شرطي الخليج” الذي كان يخضع له ملوك السعودية والذي رقص له يوماً ملك السعودية الحالي سلمان بن عبدالعزيز مهللاً باستقباله على أراضي المملكة. ومن ثم خاطب الأمير السعودي جمهور منظمة خلق بالقول: “وكان لمنظمتكم الفخر في قيادة هذه الثورة. فتحية لشهدائكم”… انفصام تجلى بوضوح عندما وقف أمير السلالة السعودية ليقول: “اللهم عجل ظهور الامام المهدي في وقتنا هذا”.
تجاهل الأمير موقف حكومته الرافض لقيادة المرأة في بلاده للسيارة، ووقف مادحاً بمنظمة تقودها إمرأة للهاوية. ليعلن وزير الاستخبارات السعودية السابق دعمه لمنظمة خلق التي ظل العالم حتى الأمس القريب متفقا على توصيفها كمنظمة إرهابية. الانفصام الذي عبّر عنه خطاب تركي الفيصل لم يكن صورة إلا عن الفصام الذي تعاني منه المملكة السعودية بنظامها السياسي ومؤسستها الدينية.
في المملكة السعودية يُحرّم العمل الحزبي، ويعتبر جرماً يستوجب عقوبة الإعدام. وفي المملكة يعد الانتماء إلى حزب خروجاً عن “ولي الأمر”، الواجب الطاعة ولو كان مستبداًً. عرش السلطة السعودية لا يعرف إلا أبناء عبدالعزيز آل سعود. طاعة من يُنصب ملكاً منهم تكون من أعظم واجبات الدين، “بل لا قيام للدين إلا بها”. تجرِّم السعودية أي رأي سياسي مختلف أو مخالف، والتأثير على السياسات العامة –الذي يتوخاه العمل الحزبي- يعتبر مفسدة تستحق الاعتقال والإعدام، لأنها تندرج تحت عنوان “تحريم الخروج على ولي الأمر، وتحريم منازعته حتى ولو كان عنده جور وظلم ومعصية”. تحت هذا العنوان اعتقلت السعودية نشطاء سياسيين وحقوقيين منهم رئيس مرصد حقوق الإنسان في المملكة وليد أبو الخير ورئيس جمعية حسم سليمان الرشودي وأحد مؤسسي الجمعية محمد البجادي… قبل أن تعدم الشهيد الشيخ نمر باقر النمر.
في رأيه حول الانتماء إلى الأحزاب يقول مفتي عام المملكة السعودية عبدالعزيز ابن باز: “أما الانتماءات إلى الأحزاب المحدثة فالواجب تركها”.
لماذا حرمة الانتماء إلى الأحزاب؟ يبرر حكام المملكة ودعاتها أن تشكيل الأحزاب وتعدديتها واختلاف الآراء السياسية هو مفسدة تقود إلى الفتن واختلال الأمن وإراقة الدماء. إلا أن ما يجري طرحه داخل المملكة لا يطبقه مسؤولوها خارج حدود دولتهم.
بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق عام 2003، سهلت المملكة السعودية مرور مقاتلين من مختلف الجنسيات إلى الأراضي العراقي بعد أن فتحت مجالها الجوي لعبور المقاتلات الأميركية كمساهمة منها في غزو العراق الذي راح ضحيته ما يفوق 100 ألف مدني عراقي. نفذ المقاتلون الذين عبروا من الحدود السعودية وغيرها، تفجيرات في الأسواق والأحياء العراقية، حصدت أرواح المدنيين العراقيين تحت شعار محاربة “إحتلال” ساهمت به المملكة نفسها.
عام 2011، ارتضت المملكة السعودية لنفسها أن تلعب دور الداعم لما تصر على تسميته بـ “الثورة السورية”. وفي العام 2013 انكفأ الدور القطري المباشر كعراب لـ “الثورة”، لتتسلم المملكة السعودية دفة القيادة والتوجيه. دعمت السعودية المقاتلين الأجانب، وفي وقت كانت تنتشر صور الجرائم المروعة للفصائل المسلحة التي تشعبت تسمياتها، كانت الخارجية السعودية تجوب العالم طلباً لدعم ما تصفه بالمعارضة السورية “المعتدلة”. انضم إلى صفوف هذه الفصائل آلاف المقاتلين السعوديين الذين تأثروا بالدعاية السعودية. وفي الوقت الذي كانت محاكم المملكة تصدر أحكاماً بالاعدام على من شاركوا في تظاهرات دعت للاصلاح في المملكة تحت عنوان “الخروج على ولي الأمر”، كانت الخارجية السعودية تمول عمليات القتل في سوريا وتعلن جهاراً أن لا حل مقبول في سوريا غير “رحيل الأسد”، وهي عبارة لطالما كررها وزير الخارجية السعودية الراحل سعود الفيصل، ويرددها على الدوام الوزير الحالي عادل الجبير.
القتل والإخلال بالأمن المجرَّم داخل المملكة، تموّل مشاريعه وأدواته في الخارج، ومن أجله يصدر المقاتلون المعبؤون بأفكار تروجها المدارس والجامعات التي تنشئها السعودية، وتغذيها الأطروحات الوهابية.
وعلى السُنة السعودية في إشاعة الفوضى في المنطقة، كان ظهور رئيس المخابرات السعودية السابق تركي الفيصل في حفل منظمة خلق الإرهابية يوم السبت الماضي… وقف تركي الفيصل ليلقى خطاباً كان من ألفه إلى يائه يخالف كل الأدبيات السعودية، في حفلة شببها كثر بأنها كانت أقرب إلى “ستاند آب كوميدي”! استعار الفيصل ممارسات وسياسات مملكته ليلصقها بإيران، وعندما قاطعه الجمهور برفع شعار “الشعب يريد اسقاط النظام”.. ابتسم الفيصل ورد: “أنا أيضاً أريد إسقاط النظام”!
أين المعارضة الإيرانية التي تتبناها السعودية اليوم… من هي منظمة خلق؟ كيف تعرفها الوثائق السعودية نفسها؟ وماذا يخبرنا الإيرانيون عنها؟ والأهم.. أي تأثير لخطاب الفيصل على الداخل الإيراني… وبالتالي من سيسقط من؟ أسئلة تنتظر الإجابة عنها في تقريرنا المقبل.