قفزات سريعة يقطعها زعيم ما يسمى “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة) أبو محمد الجولاني، باتجاه تصفية ما تبقى من ارث القاعدة في سوريا. هذا الإرث الذي لطالما شكل عائقاً أمام طموحاته بنيل الرضا الإقليمي على جماعته. وفي سبيل تحصيل هذا الرضا، اطاح الجولاني بالعديد من الرموز القاعدية، وآخرها مرجعية الأمس، خصم اليوم، “الشرعي” السابق لجبهة النصرة الأردني سامي العريدي.
في مقابلته مع الجزيرة القطرية في الشهر الأخير من العام 2013، شدد الجولاني نفسه على مرجعية العريدي الفكرية للجبهة، ونصح بقراءة كتبه والإقتداء بنهجه، فما الذي تغير ليصبح الرجل نفسه، رأساً للفتنة، بحسب بيان الهيئة. ؟
إنها مسألة فك الإرتباط بتنظيم القاعدة في الأول من آب من العام الماضي، حيث انسحبت العديد من قيادات التنظيم الأم من التشكيل الجديد حينها الذي حمل إسم “جبهة فتح الشام”، حيث رفضت شخصيات عدة الوضع الجديد، وآثرت القعود لحين اتضاح صورة مشروع الجولاني الجديد. ومن أبرز هذه الشخصيات سامي العريدي، والقيادي الامني “ابو خديجة الأردني”، بالإضافة إلى “أبو جليبيب الأردني” والي دمشق ودرعا السابق لدى الجبهة النصرة، و”أبو همام العسكري” القائد العسكري السابق لجبهة النصرة.
وما فجر الخلاف بين هذه الشخصيات والجولاني، هو ما نشره العريدي من شهادات حول مسألة فك الارتباط، وتأسيس “هيئة تحرير الشام”، بأن نائب زعيم تنظيم القاعدة في سوريا “ابو الخير المصري”، لم يكن يعلم بخطوة فك الارتباط الكلي بتأسيس الهيئة، إلا بعد اسبوعين من الإعلان عنها، واتهم الجولاني بنكث البيعة. وللتوضيح، فإن فك الإرتباط بالقاعدة مر بمرحلتين، الأولى بتأسيس “جبهة فتح الشام”، والثانية وهي الفك الكلي بتأسيس “هيئة تحرير الشام”، بإنضمام النصرة إلى جماعات أخرى كحركة نور الدين الزنكي وبعض فصائل الجيش الحر، وفي عرف القاعدة فإن فصائل الحر مرتدة وجب قتالها.
وفي ظل أجواء التوتر هذه بين الجولاني وأنصار القاعدة، طفا إلى الواجهة حديث عن نية القاعدة تأسيس فرع جديد لها في سوريا، وذكر اسم “حمزة بن لادن” ابن المؤسس “اسامة بن لادن”، وهذا امر يبدو أنه لم يرق للجولاني وجماعته. إلى أن جاء التدخل التركي في ادلب بتنسيق وموافقة من “هيئة تحرير الشام”، فكانت نقطة اللاعودة بين قادة القاعدة وأبو محمد الجولاني، فبدأت التحركات والتحرشات بين الجانبين، والرسائل المضادة، إلى أن جرى اعتقال قادة القاعدة في الشام، بتهمة زرع الفتنة.
من هم المعتقلون؟
معظم من اعتقلتهم “هيئة تحرير الشام”، هم من كبار الشرعيين والعسكريين، وكان لهم حضور كبير في تنظيم القاعدة في أفغانستان، مروراً بالعراق بعد الغزو الأميركي للبلاد، وأبرزهم:
– سامي العريدي: الشرعي العام السابق لجبهة النصرة والملقب بـ “أبو محمود الشامي”، وكان يعتبر الممثل لموقف جبهة النصرة من المسائل الشرعية، ويحظى بعلاقة وثيقة مع أبرز منظري القاعدة، “أبو محمد المقدسي” وأبو قتادة الفلسطيني”.
– أبو همام السوري: القائد العسكري العام السابق لجبهة النصرة. عمل مدرباً في تنظيم القاعدة منذ ايام أفغانستان. ونعته جبهة النصرة قتيلاً في آذار / مارس من العام 2015، لإخفاء شخصيته، لكنه عاد وظهر منشقاً عنها في آب / اغسطس 2016. تم إطلاق سراحه بعد ساعات من اعتقاله.
– أبو جليبيب الأردني: والي دمشق ودرعا السابق لدى جبهة النصرة، ويدعى “إياد الطوباسي”. وتقول مواقع الكترونية معارضة إنه ينحدر من مدينة الزرقاء الاردنية، وهو صهر مؤسس القاعدة في العراق سابقاً “أبو مصعب الزرقاوي”، وقاتل معه في العراق، قبل انتقاله إلى سوريا.
– ابو عبد الكريم المصري، تم إطلاق سراحه بعد اعتقال دام لساعات، ليكون حلقة وصل بين الجولاني والمعتقلين. وبالإضافة إلى هذه الأسماء، تم اعتقال عشرات الأشخاص الآخرين.
لم تمر هذه الحادثة مرور الكرام داخل هيئة تحرير الشام، فأصدرت عشرات الشخصيات بيانات تطالب بالإفراج الفوري عن المعتقلين، بينهم قادة عسكريون، كـ “أبو سليمان المصري”، و”عصام التونسي”، وشملت اللائحة أكثر من 50 شخصية شرعية وعسكرية، وسط تلويح بالتدخل ضد قيادة الهيئة.
مبادرة “والصلح خير”
إجراءات الجولاني وجهت ضربة لمبادرة “والصلح خير”، التي أعلن عنها العديد من مشايخ تنظيم القاعدة، بهدف إصلاح الامور في سوريا بين الجماعات هناك المبايعة لتنظيم القاعدة، والتي وافق عليها المعتقلون، ولم يعلق عليها الجولاني.
ويبدو أن الجولاني متأثر بالدائرة المقربة منه، والتي تقول حسابات “جهادية” عدة إنه يدار من قبلهم، وهم الثلاثي، عبد الرحيم عطون، مظهر الويس، والعراقي أبو ماريا القحطاني، وما يجمع هؤلاء الثلاثة هو “نقمتهم” على “التيار السلفي”، الذي تركهم يقاتلون وحدهم تنظيم داعش في معارك دير الزور بين الجماعتين عام 2014، قبل أن تسيطر داعش على المدينة، بحجة أن ما يجري هو “قتال فتنة”.
ويسير الجولاني أيضاً خلف طموحه بتأسيس إمارة له في ادلب، بعد التخلص من كل المنافسين المحتملين، بدءأ من جماعات الجيش الحر ( تم القضاء على أكثر من 13 فصيلاً)، مروراً بحركتي احرار الشام ونور الدين الزنكي، وليس انتهاءً بتنظيم القاعدة، الذي أمن له الإمكانيات والأموال والمقاتلين في بدايات ظهوره في سوريا. ويرى الجولاني بهيئة تحرير الشام امتداداً للأمن القومي التركي، بحسب ما تحدثت حسابات على مواقع التواصل الإجتماعي، كون تركيا أقرب إليه جغرافياً من تنظيم القاعدة في افغانستان أو اليمن، ويريد بالتخلص من القاعدة، تقديم اوراق اعتماد إلى اللاعب التركي، ورسالة إلى الخارج مفادها، بأن “لا قاعدة في ادلب”.
وتحدث أبو خديجة المهاجر “الأمني العام السابق لجبهة النصرة” عن مساعي الجولاني لحصر الخلاف مع الأردنيين في سوريا، دون غيرهم من الأجانب “المهاجرين”، بهدف زرع الخلاف بينهم، والإبقاء على “شعرة معاوية”، مع المقاتلين غير السوريين، إلى حين تسوية أوضاعهم إقليمياً.
إبقاء الجولاني على تلك الشعرة مع المهاجرين في الشام، قابله قطعها مع تنظيم القاعدة الأم، وهذا ما دلت عليه تصريحات بعض قادة “الهيئة”، ممن هاجم الظواهري، على خلفية دعوة الأخير بـ “عالمية الجهاد”، فيما يتمسكون بقطريته، لتجنيب جماعتهم التصنيف الدولي بـ “الارهاب”.
وبعد فشل مساعي الصلح بين الجماعات المتنافسة ذات المنهج الفكري المتقارب، يبدو أن انفجار ادلب وريف حلب الجنوبي والغربي بات قريباً بين الجماعات المسلحة، فهناك حركة نور الدين الزنكي، واحرار الشام، وفصائل تابعة للجيش الحر، تتحضر لوراثة “هيئة تحرير الشام”، وتتوقع تفككها، وتعمل على ذلك بالتعاون مع جهات تركية. فهل عجل الجولاني بإطلاق رصاصة الرحمة على كيانه ؟ وما سيكون موقف أيمن الظواهري مما جرى ؟
المصدر: موقع المنار