3 أشهر على انطلاق الاحتجاجات في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، والتي بدأت كرد على سلوك الجهاز الأمني للهيئة، قبل أن تتجاوزها إلى الحديث عن شرعية زعامة أبو محمد الجولاني لمناطق ادلب، وخياراته السياسية والإقتصادية والإجتماعية، بالإضافة إلى واقع الهيئة الداخلي.
ولعل قضية “العمالة للتحالف”، ومقتل أحد المتهمين فيها تحت التعذيب، (عبد القادر الحكيم “أبو عبيدة تل حديا”)، شكلت القشة التي دفعت بآلاف الإدلبيين إلى التظاهر ضد هيئة تحرير الشام، وطالبت بحل الجهاز الأمني، بادئ الأمر، ومن ثم اسقاط أبو محمد الجولاني نفسه، وإعادة تشكيل مجلس الشورى في ادلب، وكذلك حكومة الانقاذ.
غير أن هذه التظاهرات وما ترفعه من مطالب، تعكس صراعات أكثر عمقاً، إن كان داخل مكونات وأجنحة هيئة، أو بين الهيئة ومؤسساتها التنفيذية والعسكرية من جهة، ومع من يسكن ادلب من أهل المنطقة، وباقي المحافظات التي قدموا اليها خلال أحداث السنين الماضية.
تبدلات مجتمعية في ادلب
ليست هذه التظاهرات التي تشهدها مناطق ادلب واريافها هي الوحيدة التي خرجت ضد الجولاني وهيئة تحرير الشام، لكنها الأكثر انتشاراً واستمراراً، وبدأت أواخر شباط / فبراير الماضي، وتضم جماعات من مختلف الانتماءات. ولعل الأكثر وضوحاً في مشاهد التظاهرات، من يتبع فصائل ما تبقى من الجيش الحر، بالإضافة إلى وجود جماعات تتبع حراس الدين (بقايا تنظيم القاعدة في سوريا)، وجماعة حزب التحرير.
هذه الأطراف مختلفة التوجهات، اتفقت على اسقاط الجولاني، وامتطت مطالب المتظاهرين، الساعين من خلال حراكهم الشعبي، إلى تحقيق مكاسب اجتماعية وإقتصادية وبالتالي معيشية، بالإضافة طبعاً إلى كف اليد الأمنية عنهم.
ودفعت البطالة وتردي الأوضاع الإقتصادية بالإضافة إلى الغلاء المعيشي وزيادة الضرائب من حكومة الانقاذ (التي بلغت حد ضريبة على ترميم المباني المدمرة)، آلاف الشباب إلى التظاهر ضد سياسات هيئة تحرير الشام، التي تمسك بمفاصل الحياة الإقتصادية والتجارية في تلك المنطقة.
وسعت حكومة الانقاذ التابعة للهيئة إلى احتواء التظاهرات، من خلال الافراج عن مئات المعتقلين، خصوصاً في ملف العمالة، كما اصدرت قرارات عدة لتخفيض اسعار المحروقات، وتخفيف بعض الجبايات. غير أن هذه الإجراءات بحسب معارضي الهيئة، لم تلامس مطالب المتظاهرين.
وترى أوساط ادلبية في تفسير ما يجري من تظاهرات، هو عدم التوازن بين خريجي الجامعات وفرص العمل، وبالتالي ارتفاع معدل البطالة لدى الشباب هناك، كما أن الأحداث التي شهدتها سوريا في الفترة الماضية، خلقت جيلاً من الشباب المسيس.
غير أن أنصار تحرير الشام، يعتبرون أن التظاهرات هي رد من جماعات مسلحة مناوئة، على انهاء الهيئة “الفصائلية” في إدارة منطقة ادلب. فهم يرون في تلك المنطقة استقراراً اقتصادياً واجتماعياً، اثار حفيظة المتضررين من تلك الخطوات، فحركوا الشارع، سعياً منهم إلى استعادة المكاسب السابقة.
ويعتبر مقربون من تحرير الشام، أن تلك الأحداث سببها انتقال السلطة من الفصائل إلى مؤسسات حكومية، وبالتالي ارتفعت سقوف المطالب المجتمعية، وباتت تسعى إلى الرفاهية، خصوصاً مع توقف المعارك مبدئياً منذ حوالي 4 سنوات.
صراعات بين تيارات الهيئة
خلال الفترة الماضية، أقصى أبو محمد الجولاني كامل الأجنحة التي تتألف منها الهيئة، وحصر جميع الصلاحيات بيده، بالتعاون مع المقربين منه، وبالتالي استحوذ على المفاصل الإقتصادية في ادلب.
تزامنت خروج التظاهرات في مناطق سيطرة تحرير الشام، مع ارتفاع منسوب الخلافات بين اركان الهيئة، واغتيال الرجل الثاني فيها “أبو ماريا القحطاني” بعد اعتقاله لاشهر، بالإضافة إلى انشقاق الرجل الثالث جهاد عيسى الشيخ “أبو أحمد زكور”، صاحب الملف الاقتصادي في الهيئة.
وتأتي هذه الانقسامات داخل هيئة تحرير الشام، مع انسداد الأفق السياسي لحل الأزمة السورية، وانخفاض الدعم الخارجي للفصائل المختلفة، ما جعل أجنحتها تتنافس على موارد منطقة ادلب، من معابر وجباية ضرائب وتجارة.
وتجمع العديد من الآراء، على أن الانقسامات داخل اجنحة الهيئة، ليست السبب الأساسي بما يحصل، لكنها وفرت مساحة للتحرك على الأرض. وفي حين تواجه هيئة تحرير الشام صراعاً على شرعيتها التمثيلة، حاولت اعتماد مقاربة داخلية لحل الازمة، عبر تشكيل لجان عقدت اجتماعات مع الفعاليات للاستماع إلى مطالبها. كما عقد الجولاني مؤخراً لقاءً مع وجهاء مدينة إدلب، سبقها لقاء مع وجهاء كامل المناطق التي تخضع لنفوذ الهيئة وسيطرتها.
جمر تحت الرماد
قبل أيام، خرج القيادي البارز في هيئة تحرير الشام “عبدالرحيم عطون” في منشورات حمل عنوان “نقوش على جدار المرحلة”، حاول فيها إعادة الصراع إلى مربعه الأول، منذ نشأة تحرير الشام، مع ما رافقها من “نكث وانسحاب”. ويسعى عطون وهو رفيق الجولاني إلى العودة للواجهة بعد غياب عن الساحة، للتأكيد على أحقية مشروع الجولاني في قيادة المنطقة، على اعتبار أنها ليست “مشروع تغلب”.
وفيما كان عطون يدافع عن مشروع الهئية، نفذت قوات الأمن العام انتشارا في مدينة جسر الشغور، بعد مقتل أمني بالهيئة ذبحا بسكين، في منزله بالمدينة. وأصدرت وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ، بياناً ربطت خلاله هذه الحادثة بما قالت إنها “الأحداث الأخيرة وحالة الفوضى التي توجهها بعض الأطراف وتحرّض عليها”.
ويشكل الخلاف بين الجناحين الأمني والسياسي حجر الرحى في انقسام البيت الداخلي لهيئة تحرير الشام. وتقول مصادر ادلبية إن الامنيين وجهوا ضربة إلى العسكريين على خلفة ملف “العمالة للتحالف”، ما دفع بالعسكر إلى تحريك الشارع بوجه الجهاز الأمني.
وبالإضافة إلى الجناحين المذكورين، تتعقد شبكة التحالفات والولاءات داخل هيئة تحرير الشام، فهناك الولاءات المناطقية والعشائرية، وقد أحدثت جميعها شرخاً داخلياً، امتد حكماً إلى بيئتها الشعبية.
ومن الصعوبة بمكان نظراً إلى هذا التعقيد، تفسير الأسباب الحقيقية لتلك الاحتجاجات، ما إذا كانت مطالب شعبية بحتة، أم خلافات داخلية بين قادة وأركان هيئة تحرير الشام، أم أن هناك تصفية حسابات بين الهيئة والجماعات الأخرى التي أقصتها على مدى السنوات الماضية، غير أن الأكيد أن هذه الأحداث إن توسعت وشملت فئات مجتمعية وعسكرية جديدة، قد تؤدي إلى واقع جديد في ادلب، قد يغير الموازين العسكرية والسياسية.
المصدر: موقع المنار