لمّا عزم معاوية على قتل الإمام، كتب إلى ملك الروم يسأله أن يوجّه إليه من السمّ القتّال شربة، فكتب إليه ملك الروم: أنّه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا، فكتب إليه: إنّ هذا ابن الرجل الذي خرج بأرض تهامة، قد خرج يطلب ملك أبيه، وأنا أريد أن أدسّ إليه من يسقيه ذلك، فأريح العباد والبلاد منه، ووجّه إليه بهدايا وألطاف، فوجّه إليه ملك الروم بهذه الشربة، التي دسّ بها إلى الحسن عليه السلام1.
فما ذهبت الأيّام، حتى بعث معاوية إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس بمال جسيم, وجعل يمنّيها بأن يعطيها مائة ألف درهم أيضاً, ويزوّجها من يزيد, وحمل إليها ذلك السمّ، لتسقيه الإمام الحسن عليه السلام…
وفي بعض الأيّام، انصرف الإمام إلى منزله، وكان صائماً في يوم حارّ, فأخرجت له وقت الإفطار شربة لبن, وقد ألقت فيها ذلك السمّ, فشربها الإمام عليه السلام..
وقيل: إنّها سقته السمّ في برادة من الذهب 2، في السويق المحلّى بالسكّر “القند”3.
ولمّا أحسّ الإمام بحرارة السمّ، قال: “يا عدوّة الله! قتلتيني، قتلك الله, والله، لا تبصرين خيراً4, ولقد غرّك، وسخر منك, والله يخزيك ويخزيه”5.
وبقي عليه السلام يعاني ألم السمّ يومين، على أقلّ الروايات6, وفي بعضها: أربعين يوماً7, وهو يتقيّأ دماً, توضع تحته طست، وترفع أخرى…
ولمّا نظر الطبيب، الذي كان يتولّى معالجته، إلى حالته عليه السلام، قال: هذا رجل (مريض)، قد قطَّع السمّ أمعاءه!8.
وعن جنادة بن أبي أميّة، قال: دخلت على الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام في مرضه، الذي توفّي فيه, وبين يديه طست يقذف عليه الدم, ويخرج كبده9 قطعة قطعة من السمّ، الذي أسقاه معاوية…
فقلت: يا مولاي، ما لك لا تعالج نفسك؟ فقال: “يا عبد الله، بماذا أعالج الموت؟” قلت: إنّا لله، وإنّا إليه راجعون.
ثمّ التفت إليَّ، فقال: “والله، لقد عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، أنّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد عليّ وفاطمة، ما منّا إلّا مسموم أو مقتول”، ثمّ رفعت الطست، وبكى صلوات الله عليه وآله….
قال: ثمّ انقطع نفسه، واصفرّ لونه، حتى خشيت عليه، ودخل الحسين عليه السلام، والأسود بن أبي الأسود، فانكبّ عليه، حتى قبَّل رأسه وبين عينيه، ثمّ قعد عنده، فتسارّا جميعاً، فقال أبو الأسود: إنّا لله، إنّ الحسن قد نعيت إليه نفسه10.
لا يوم كيومك، يا أبا عبد الله
ولمّا نظر إليه الحسين عليه السلام بكى، فقال له الحسن عليه السلام: “ما يبكيك يا أبا عبد الله؟” قال: “أبكي لما يصنع بك”, فقال له الحسن عليه السلام: “إنّ الذي يؤتى إليّ سمّ يدسّ إليّ فأقتل به، ولكن لا يوم كيومك، يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل، يدَّعون أنّهم من أمّة جدّنا محمّد صلى الله عليه واله وسلم، وينتحلون دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك، وسفك دمك, وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك، فعندها تحلّ ببني أميّة اللعنة، وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كلّ شيء، حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار”11.
قاله يبو السجاد لا تبكي ولا تنوح أنا على ما بي أعالج طلعة الروح
وإنت تظل بكربلا عريان مطروح مرضوض صدرك بالثرى ومقطوع اليدين
وقال له: “كيف تجدك، يا أخي؟” قال: “أجدني في أوّل يوم من أيّام الآخرة، وآخر يوم من أيّام الدنيا، وأعلم أنّي لا أسبق أجلي، وأنّي وارد على أبي وجدّي صلى الله عليه واله وسلم، على كره منّي لفراقك، وفراق إخوتك، وفراق الأحبّة، وأستغفر الله، من مقالتي هذه وأتوب إليه، بل على محبّة منّي للقاء رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ولقاء فاطمة، وحمزة، وجعفر عليهم السلام، وفي الله عزَّ وجلَّ خلف من كلّ هالك، وعزاء من كلّ مصيبة، ودرك من كلّ ما فات…”
يوصي أخاه الحسين عليه السلام
ثمّ قال للحسين عليه السلام اكتب: “هذا ما أوصى به الحسن بن عليّ إلى أخيه الحسين بن عليّ، أوصى: أنّه يشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأنّه يعبده حقّ عبادته، لا شريك له في الملك، ولا وليّ له من الذلّ، وأنّه خلق كلّ شيء فقدّره تقديراً، وأنّه أولى من عُبد، وأحقّ من حمد، من أطاعه رشد، ومن عصاه غوى، ومن تاب إليه اهتدى.
فإنّي أوصيك يا حسين، بمن خلّفت من أهلي وولدي وأهل بيتك، أن تصفح عن مسيئهم، وتقبل من محسنهم، وتكون لهم خلفاً ووالداً…”12.
وقال: “يا أخي، إنّي مفارقك، ولاحق بربّي عزَّ وجلَّ، وقد سقيت السمّ، ورميت بكبدي في الطست، وإنّي لعارف بمن سقاني السمّ، ومن أين دُهيت، وأنا أخاصمه إلى الله تعالى، فبحقّي عليك، إن تكلّمت في ذلك بشيء، وانتظر ما يُحدث الله، عزّ ذكره، فيَّ..13
فإذا قضيت، فغمِّضني، وغسّلني، وحنّطني، وكفّني، وصلّ عليَّ, واحملني على سريري إلى قبر جدّي، حتى تلحدني إلى جانبه, فإن منعت من ذلك، فبحقّ جدّك رسول الله، وأبيك أمير المؤمنين، وأمّك فاطمة، وبحقّي عليك، إن خاصمك أحد، ردّني إلى البقيع، إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد رحمة الله عليها، فادفنّي هناك, ولا تهرق فيَّ محجمة دم”14.
وقام الحسن عليه السلام لحاجة الإنسان، ثمّ رجع, فقال: “سقيت السمّ عدّة مرّات, وما سقيت مثل هذه, لقد لفظت طائفة من كبدي، ورأيتني أقلّبه بعود في يدي..”15.
* السبط المسموم (شهادة الالمام الحسن المجتبى). سلسلة مجالس العترة. نشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية. ط: نيسان 2010م / 1431هـ. ص: 63- 69.
1-الطبرسيّ: الاحتجاج ج 2 ص 291-292.
2- برادة الذهب: سحالته وما يبرد منه.
3- الطبريّ الإماميّ: دلائل الإمامة ص 61, الشاميّ: الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم ص 511, فرهاد ميرزا: القمقام الزخار والصمصام البتّار ج 1 ص 228.
4- في بعض النسخ:”والله لا تصيبينّ منّي خلفاً”.
5- الراونديّّ قطب الدين: الخرائج والجرائح ج 1 ص 241, والرواية عن الصادق عن آبائه.
6- المصدر السابق ص 242.
7- الإرشاد: المفيد ج 2 ص 15, ابن سعد: ترجمة الإمام الحسن، من القسم غير المطبوع، من كتاب الطبقات الكبير, تهذيب وتحقيق السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ قدّس سرّه ص 85 و 98, التميميّ المغربيّ القاضيّ أبي حنيفة النّعمان بن محمّد: شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأطهار ج 3 ص 124.
8- ابن سعد: ترجمة الإمام الحسن، من القسم غير المطبوع، من كتاب الطبقات الكبير, تهذيب وتحقيق السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ قدّس سرّه ص 83, الباعونيّ الشافعيّ: جواهر المطالب في فضائل الإمام عليّ بن أبي طالب ج2 ص 210.
9- المراد بالكبد في هذه الروايات إمّا الدم أو الأمعاء، كما نصّت على ذلك روايات أخرى, وإلّا فإنّ الكبد لا يخرج عن طريق الفم, والله العالم.
قال العلّامة الشيخ باقر شريف القرشيّ: “لقد نصّت الروايةعلى تقدير ثبوتهاأنّ السمّ أثّر في كبد الإمام، حتى قاء بعضاً منه, وقد تحقّق في الطبّ الحديث أنّ السمّ لا يوجب قيء الكبد… وقد يتوهّم أنّ هذا يتصادم مع ما جاء في الرواية, وهو مدفوع, فإنّ الكبد في الاستعمالات العربيّة، يطلق على الجهاز الخاصّ في الجانب الأيمن، الذي يفرز الصفراء, كذلك يطلق على ما في الجوف بكامله، كما جاء في (القاموس)، وفي (تاج العروس) ما نصّه: وربّما سُمّي الجوف بكامله كبداً..
قال: ومن المجاز الكبد الجنب, وفي الحديث: “فوضع يده على كبده”, وإنّما وضعها على جنبه من الظاهر, وفي حديث مرفوع: “وتلقي الأرض أفلاذ كبده”، أي تلقي ما خبّىء في بطنها من الكنوز والمعادن، فاستعار لها الكبد, وجاء ذلك أيضاً في (لسان العرب), وعلى ذلك فيكون المراد من الرواية، أنّه ألقى من جوفه قطعاً من الدم المتخثّر، تشبه الكبد, وبهذا يظهر عدم التنافي بين الرواية وبين ما ذكره الأطبّاء فيما نحسب, والله العالم”. (الميلانيّ: قادتنا كيف نعرفهم؟ ج 5 ص 293، عن حياة الإمام الحسن، للقرشيّ ج2 ص 475).
10- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 44 ص 138 عن كفاية الأثر للقمّي.
11- الصدوق: الأماليّ ص 177.
12- الطوسيّ: الأماليّ ص 159.
13-المفيد: الإرشاد ج 2 ص 17.
14-الطبريّ الإماميّ: دلائل الإمامة ص 61, والمفيد: الإرشاد ج 2 ص 17, باقتباس وتصرّف منهما.
15-المسعوديّ: مروج الذهب ج3 ص 6.
المصدر: شبكة المعارف الاسلامية