منذ ٨ تشرين الأوّل ٢٠٢٣ دخلت جبهات الإسناد في محور المقاومة تباعا في معركة طوفان الأقصى. وقد شهدت الحرب طوال عشرة أشهر حتى الآن، محطات بلغت فيها ذروة كادت أن تحوّلها الى حرب كبرى أو شاملة، فيما لو حصل أدنى خطأ أو تقدير من قبل أي طرف من الأطراف المتحاربة. فاحتمال أن تتدحرج الأمور وصولا إلى حرب كبرى منذ اللحظة الأولى للحرب، هو من ضمن الاحتمالات المعتبرة، حتى لو على فرض أن الجميع لا يريدون الانزلاق إليها.
المحطة الأولى من التصعيد كانت عندما تمادى العدو الصهيوني وقام باغتيال الرجل الثاني في حركة حماس الشهيد الشيخ صالح العاروري في الضاحية الجنوبية، بتاريخ ٢ كانون الثاني ٢٠٢٤، ما استدعى ردا بعد أربعة أيام من المقاومة الإسلامية أعادت فيه الاعتبار إلى معادلات الردع، وقامت بقصف قاعدة ميرون الجوية لأوّل مرّة.
المحطة الثانية وكانت الأخطر في محطات التصعيد قبل الأخيرة، عندما شنّت طائرات الكيان غارة على القنصلية الإيرانية في دمشق بتاريخ ا نيسان ٢٠٢٤، أسفرت إلى استشهاد ثلّة من ضباط الحرس الثوري الإيراني على رأسهم الجنرال الشهيد زاهدي قائد فيلق القدس. هذه المرّة كادت الأمور ان تتفلت وتخرج من عقالها، وحبس العالم أجمع أنفاسه أياما بانتظار الرد الإيراني الذي كان في ١٤ نيسان بأكثر من ٣٠٠ صاروخ ومسيّرة، لتكون الضربة الأولى من حيث الدقّة والحجم والقدرات بتاريخ الصراع مع الكيان، وبالحد الأدنى _ ولا نريد المبالغة _ منذ عام ١٩٧٣.
أما المحطة الثالثة فكانت بعد استهداف أنصار الله تل أبيب بمسيّرة يافا فجر الجمعة ١٩ تموز ٢٠٢٤، سرعان ما استدعى الأمر ردا اسرائيليا على منشآت نفطيّة وحيويّة في الحديدة، في رسالة أرادت إسرائيل توجيهها إلى إيران بالتحديد، بأن من يصل إلى الحديدة قادر للوصول إلى طهران. ولا ننسى من وجهة النظر الإسرائيلية أن حساب الوعد الصادق لم يغلق بعد مع الجمهوريّة الاسلاميّة، وصورة الردع الإسرائيليّة أمام هيبة إيران مهشّمة.
وكانت حادثة مجدل شمس مؤخرا، والتداعيات التي أعقبتها، الخطأ المميت الذي أدخلت إسرائيل نفسها فيه، والذي أدّى إلى تفجّر كلّ الجبهات، وأخرجها من مرحلة الإسناد إلى مرحلة جديدة يخوض فيها المحور حربا مفتوحة على كلّ الاحتمالات. ورغم مسارعة حزب الله إلى رفض الاتهام الإسرائيلي ونفي مسؤوليته عن الحادثة، بعد تحقيق داخلي أجراه الحزب كما أعلن أمينه العام السيد حسن نصرالله، ونحن نعلم أن المقاومة صادقة ولديها جرأة الإعلان عن مسؤوليتها إن كان الخطأ خطأها. لم يمنع كلّ ذلك إسرائيل من استغلال الحادثة لأجل التصعيد وتخطّي الخطوط الحمراء، وكلّ قواعد الاشتباك التي كانت معمولا بها سابقا، في فرصة استشعر فيها نتنياهو انها اللحظة المؤاتية لقطف الثمار بقطع رؤوس المقاومة في لبنان وفلسطين. هذا الشعور بالنشوة والزهوّ بالانتصار، الذي أراد منه نتنياهو أن يُؤرش على مستوى شد العصب الداخلي في كيانه، وتقديم صورة لنصر مفقود منذ عشرة أشهر، ليس إلا شعورا زائفا سرعان ما ستتبيّن معالمه وخطورته على مستوى التحدّي الاستراتيجي الجديد الذي أدخل الكيان نفسه فيه. ورغم قساوة المشهد على المستوى العاطفي لدى المقاومة وجمهورها سواء في لبنان أو فلسطين، إلا أن بطون هذه المقاومة ولّادة وهي قادرة على ملء الفراغ وبشكل سريع.
إذاً إسرائيل أرادت التصعيد هروبا إلى الأمام، إلا أنها أساءت التقدير مرّة جديدة في احتساب المخاطر الاستراتيجية جرّاء تخطيها الخطوط الحمراء، فعمليتي الإغتيال التي نفذتهما إسرائيل في الضاحية الجنوبية وطهران فضلا عن قصفها سابقا للحديدة، مرورا بالقصف الأميركي على مواقع كتائب حزب الله العراق في جرف الصخر في بابل، لن يكون مسموحا ان تمر دون رد اعتبار وازن وقاسي وغير شكلي يعيد موازين الردع القائمة. فكيف ستكون الردود لمحور المقاومة، وهناك حساب مفتوح على كل الجبهات؟ وهل نحن على قاب قوسين من الحرب الشاملة؟
للإجابة على تلك الأسئلة، نحتاج أولاً أن نفصّل الخطوط الحمراء التي تجاوزتها إسرائيل:
١- جبهة اليمن:
تجاوز الإسرائيلي خطاً أحمر بمشاركة مباشرة عبر ضرب منشآت نفطية وحيوية، أسفرت إلى وقوع شهداء وجرحى مدنيين.
٢- جبهة العراق:
قصف الأميركي مقرات كتائب حزب الله العراقي ستعيد خلط الأوراق من جديد، بعد ان كانت الفصائل العراقية قد اتفقت مع الحكومة العراقية على تحييد القوات الأميركية من عملياتها، لاعتبارات عراقية داخلية، ولأن هناك جدولة تمت مع الحكومة لانسحاب هذه القوات من العراق ضمن مهل زمنيّة محدّدة.
٣- جبهة لبنان:
كسر خطوط حمراء بأبعاد ثلاثية، من حيث المكان في الضاحية الجنوبية في بيروت معقل المقاومة وعاصمة الدولة، من حيث الضحايا تم استهداف أماكن سكنية وسقط عدد من الشهداء والجرحى المدنيين بينهم أطفال ونساء، ومن حيث طبيعة الهدف المستهدف باغتيال المشرف الفعلي على مواجهة حزب الله مع إسرائيل عقب طوفان الأقصى، السيّد محسن شكر، الشخصية القيادية الرفيعة المستوى، والتي تعتبر الرقم الثاني من حيث الأهميّة على المستوى العسكري.
٤- جبهة ايران:
ضربة متعددة الأهداف من حيث المكان في العاصمة الإيرانية، ومن حيث طبيعة المستهدف رأس حماس رئيس المكتب السياسي الشهيد اسماعيل هنيّة، أما من حيث الإعتبار فهو ضيف عزيز حلّ على الجمهورية الإسلامية. ما يعني أن الضربة تتحدى الهيبة الإيرانية لا بل تطال الشرف الإيراني كما عبّر سماحة الأمين العام.
ماذا يعني ذلك؟ وما ستكون خيارات الرد لجبهات المقاومة؟
١- بالنسبة لإيران فإن اعتبار فرض الهيبة والأخذ بالثأر على اغتيال ضيفها وفي العاصمة، يسمح لإيران بهامش مناورة كبير جدا، يصل إلى حدود ضرب تل أبيب ضمن إطار الرد المتماثل.
٢- حزب الله لن يكون ملزما بحدود المكان، ولا أيضا بحدود تجنّب المدنيين، بعد أن تجاوزت عملية الاغتيال التي نفذها العدو رمزية المكان، كما لم تُراع حرمة تواجد المدنيين مكان الاستهداف.
٣- أضف ان قتل قادة الصف الأول يعطي الحزب هامش الرد على مقرّات قياديّة في جيش العدو.
٤- الضربة الأميركية في العراق ستجعل فصائل المقاومة العراقية متحرّرة من الالتزام الذي قطعته أمام الحكومة العراقيّة، بتجنيب القوات الأميركية المتواجدة ضمن القواعد الأميركية في العراق. فضلا ان الجبهة العراقيّة دخلت بتنسيق متكامل مع أنصار الله، وهي حتما ستشارك ضمن هذا السياق في الرد القادم من جبهات المحور.
٥- الحق الطبيعي الذي يكفله مبدأ رد العدوان بالمثل، سيعطي هامشا لأنصار الله بضرب أهداف مدنيّة تطال منشآت اقتصادية أو نفطية، أو ذو طابع حيوي كمحطات توليد الطاقة الكهربائية وما شاكل.
٦- وهي النقطة الأهم في فهم طبيعة محور المقاومة ومبدأ وحدة الساحات، حيث تجد كلّ ساحة دورها في العمل إلى جنب الساحات الأخرى بما تستطيع أن تقدّمه ضمن الفرص المتاحة أمامها، وبما يخدم الهدف العام وهو الوصول إلى وقف الحرب على غزّة. وبالتالي فإن التقسيم أعلاه لا يعني أن كلّ ساحة تصبح ملزمة بهامش يقيّدها ولا يسمح لها أن تتجاوزه أو تتشارك فيه مع ساحات أخرى، بل أن هوامش الرد كلّها ومن مبدأ وحدة الساحات ووحدة هدف المعركة تصبح متداخلة مع بعضها البعض، وكل جبهة معنيّة بما تستطيع أن تحققه من تلك الأهداف، مع مائز إضافي فرضته موازين الردع الآن، وهو حتميّة أن تكون مشاركة إيران وحزب الله بالنصيب الأوفر من حيث الكم ونوعيّة الصواريخ والمسيّرات.
وعليه، سيكون هامش الرد لمحور المقاومة غنيّ ومتنوع، من جهّة طبيعة الأهداف (منشآت عسكرية، اقتصاديّة، حيوية…)، ومن جهّة المكان الجغرافي حيث لا سقف يردع حتى ولو كانت عاصمة الكيان بذاتها. ويبقى لقيادات المحور أن تختار المكان والطبيعة لتلك الأهداف، بما يتناسب مع ما تفرضه الظروف الميدانيّة واللوجستيّة والمصلحة العليا. ويبقى السؤال الأهم، هل سيؤدي هذا الرد _الحتمي والقاسي والمؤلم المبكي_ لمحور المقاومة إلى حرب شاملة في الإقليم؟
الإجابة منوطة بكيفيّة تعامل الإسرائيلي ومن خلفه الأميركي مع رد المحور، وهل سيسمح الأميركي لإسرائيل بالإنزلاق إلى أتون الحرب الكبرى والشاملة؟ الكرة ستكون بعد رد المحور في ملعب اميركا وإسرائيل، وهما المعنيتان الأساسيتان بتوسعة كرة اللهيب أو إخمادها. مع الإشارة إلى تسريب خبر عبر موقع أكسيوس الأخباري عن مسؤول أميركي أن بايدن أبلغ نتنياهو عبر اتصال هاتفي “أن الولايات المتحدة ستساعد إسرائيل في الرد على أي هجوم ايراني، ولكنه حذره من أنه إذا أقدم على التصعيد مجددا فلا يعتمد على الولايات المتحدة لإنقاذه”. غير أننا نعلم علم اليقين نفاق الشيطان الأكبر، ولا تخدعنا مثل هذه التصريحات المتكرّرة، وستبقى أميركا الحارس الطبيعي لهذا الكيان المؤقت، وقد أخذ المحور بحسبانه أسوأ السيناريوهات، والعبرة بالخواتيم لواقع ومجريات الميدان.
ولنا أن نفترض السيناريو الأكبر وهو في حال تمدد الحرب الى مستوى الحرب الشاملة _والتي هي حتى اللحظة ليست بالحتميّة_ كيف سيكون وقع ذلك على الكيان؟
في إسرائيل هناك ما يقارب ال ١٥٠ منشأة وقاعدة عسكرية، موزعة بين قواعد سلاح الجو والرادارات وقواعد قوات عسكرية ومخازن أسلحة وقبب حديديّة ومنشآت بحرية ونووية…، أضف إليهم حوالي ١٠٠٠ منشأة اقتصاديّة وحيويّة، متنوعة بين منشآت صناعية وزراعية وتجارية ونفطية وموانئ بحرية ومحطات طاقة ومطارات وشبكات سكك حديديّة.. . ومن خلال معادلة حسابية بسيطة نفترض فيها أن كل موقع عسكري يحتاج لتدميره الى ١٠٠ صاروخ باليستي برأس حربي زنته ١٠٠٠ كغ، وكل منشأة اقتصادية أو حيويّة تحتاج الى ٣٠ صاروخ من النوع ذاته. أي بمعنى أخر سيحتاج الكيان حوالي ال ٤٥٠٠٠ صاروخ بالستي ليتلقى ضربة استرتيجية تعطل جميع مراكز ثقله النوعي على المستوى العسكري والاقتصادي والسياسي. وتجعله عاجزا وفاقدا للقدرة على خوض او إدارة أي حرب يدخل فيها.
بمعنى آخر أن سيناريو يوم القيامة كما يحب الإسرائليون تسميته، سيجعل هذا الكيان أمام مشهد لهجوم مركّب من المسيّرات والصواريخ الدقيقة والصواريخ الانزلاقية وصواريخ التشتيت، التي ستكون موجّهة الى مراكز الثقل النوعي في هذا الكيان بعشرات الآلاف منها ومن كل حدب وصوب، ما سيعرّضه الى خطر كبير يوازي بالحجم قنبلة نووية تكتيكية. ولن تقف الأمور عند هذه الحدود، بل سيكون محور المقاومة مهيّأ لشن هجوم برّي بعد أن تم تحييد القدرات الأساسية التي يعتمد عليها جيش هذا الكيان. وسيكون لقوى هذا المحور القدرة على المناورة البرية بشكل مريح أكثر وسرعة أكبر وبعمق الكيان نفسه.
نعم لقد أدخل نتنياهو كيانه وجيشه في معضلة عميقة لم يتأنّ في دراسة كافة أبعادها الاستراتيجية، صحيح أن محور المقاومة لا يريد حتى الساعة الذهاب إلى حرب شاملة، وخصوصا بتوقيت يفرضه علينا العدو. غير أن هذا المحور لم يتهيّب ومنذ اللحظة الأولى لبدء طوفان الأقصى من الذهاب إلى مثل تلك الحرب إن فرضت عليه. وتبقى الأمور في الخواتيم، وكما عبّر سماحة الأمين العام أيها الصهاينة اضحكوا الآن قليلا وستبكون غدا كثيرا. وما النصر إلا من عند الله العزيز الجبار يمنّ به على من يشاء.
المصدر: بريد الموقع