فلنعد بالذاكرة إلى الساعة 09:05 من يوم الأربعاء الموافق في الثاني عشر من تموز/يوليو 2006. في خلّة وردة في خراج بلدة عيتا الشعب، ولدى مرور قوة عسكرية للعدو الإسرائيلي مؤلفة من ستة إلى ثمانية جنود بالقرب من موقع بركة ريشا، قامت مجموعة خاصة من المقاومة الإسلامية بتفجير عبوة ناسفة أدت إلى قتل وجرح عناصر القوة، ثم حصل اشتباك تمكّن خلاله المقاومون من قتل ثلاثة جنود اسرائيليين وأسر جنديين آخرين في عملية أطلق عليها حزب الله إسم “الوعد الصادق”.
بعد ساعتين فقط، وعند الساعة 11:15 بدأت طائرات العدو قصف الجسور اللبنانية من جنوب نهر الليطاني وصولاً إلى صيدا، وفي مساء اليوم ذاته اعتبرت الحكومة الإسرائيلية التي انعقدت في اجتماع طارئ أن “الوعد الصادق” نقطة تحول وقررت تفويض طاقم وزاري لتنفيذ قرار إعلان الحرب على حزب الله في إطار ما أسمته “المواجهة الكبرى” لتحقيق هدفين: الأول ضربة مؤلمة لحزب الله والبنى التحتية اللبنانية، والثاني إبعاد حزب الله عن الحدود مع فلسطين المحتلة بجهد عسكرية ودبلوماسي، وأطلقت على حربها تلك تسمية “الجزاء المناسب”.
33 يوماً من الحرب المدمّرة على لبنان نالت بيئة المقاومة الحصّة الأكبر منها، وانتهت بفشل العدوان فشلاً ذريعاً أطاح برؤوس كبار في حكومة الحرب وجنرالات الجيش الذين تم تحميلهم مسؤولية الإخفاق الكبير.
حزب الله ونسخة الرعب 2024
مرّت السنوات على آخر مواجهة مفتوحة بين المقاومة الإسلامية وجيش العدو الإسرائيلي، إلى أن جاء صباح الثامن من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023. أعلن حزب الله بالميدان قبل البيان بدء معركة عنوانها “الدعم للشعب الفلسطيني الصامد في قطاع غزة وإسناداً لمقاومته الباسلة والشريفة” وذلك عقب عملية “طوفان الاقصى” التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية حماس في غلاف غزة قبل يوم واحد.
بدأت الصواريخ الموجهة تخدش وجه جيش الاحتلال، وتلكم أنف قواعده العسكرية وإمكانياته التجسسية، إلى أن تطورت العمليات وفق معادلة “المدى والشدّة” لتقتل جنوداً وتهجّر مستوطنين وتُنشئ بفعل الأمر الواقع منطقةً عازلة في شمال فلسطين المحتلة للمرة الأولى منذ تأسيس الكيان الغاصب عام 1948.
كشف الحساب هذا واجهه جيشُ الاحتلال بما يلي:
1- أعمال عدائية ميدانية بقيت تحت سقف “كل شيء ما عدا الحرب الموسّعة” مع حزب الله.
2- تصريحات عالية النبرة من قبل القيادتين السياسية والعسكرية في كيان الاحتلال.
3- تحريك الترسانة الدبلوماسية الغربية تجاه لبنان للتهويل والترهيب والترغيب.
لكن حصيلة كل هذا طوال 160 يوماً كانت “كلمة السر” التي تحدث عنها للمنار عضو المكتب السياسي للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين فتحي كليب.
لكن يديعوت أحرونوت كشفت في العاشر من آذار/مارس أن “إسرائيل” تواصل استعداداتها لشن عملية عسكرية ضد حزب الله في جنوب لبنان، وأن هذه الاستعدادات تشمل تهيئة ملاجئ وغرف محصنة لاستيعاب عشرات الآلاف من سكان المستعمرات الشمالية، وذلك بهدف إعادة الأمن إلى الشمال تمهيداً لعودة السكان الذين نزحوا باتجاه الوسط.
محللون إسرائيليون: من يهدد حزب الله يحبس أنفاسنا من الخوف
تغيّر المشهدُ جذرياً عمّا كان عليه واقع التعامل الإسرائيلي مع جنوب لبنان قبل 18 عاماً. فمن كان يصدّق بأن الذي يتخذ قرار سحق حزب الله وإبعاده عن الحدود خلال ساعات، سوف يستغرق 160 يوماً في الحديث عن الاستعدادات لشن عمليةٍ عسكرية لا تهدف إلى “السحق”، بل إلى ضمان السكنِ الآمن للمستوطنين في الشمال؟؟!!! ومن كان يصدّق بأن القصة لدى الإسرائيليين لم تعد قصّة تحليلٍ رباعي لنقاط القوة ونقاط الضعف والفرص والتهديدات لشن الحرب على المقاومة في لبنان، بل إن أصل طرح فكرة الحرب باتت كابوساً لا يمكن التعامل معه.
لم يعد إذاً الحديث عن معادلات الردع متلائماً مع صورة واقع الصراع بين “إسرائيل” وعدوّها اللدود في لبنان. فلا مجال بعد اليوم للحديث عن منطقة وسط لهذا الصراع، ويدرك مسؤولو مستعمرات الشمال أكثر من غيرهم في كيان العدو بأن لا حل إلا وفق معادلة “إما قاتل وإما مقتول”، وأن الاتفاق بموجب قرار دولي أو حل دبلوماسي لن يوصل مع حزب الله إلا إلى ما وصل إليه الحال اليوم: اتساع المنطقة العازلة في الشمال.
إن هذا الاستنتاج بالنسبة لبيئة المقاومة هو إعلان نصر، فالمقاومة الإسلامية من دون حرب واسعة أنشأت منطقة عازلة بعمق 5 كيلومترات في شمال فسلطين نتيجة الرعب، ومن يقول غير ذلك عليه أن يُثبت العكس.
المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان، يُدركُ الذين راهنوا عليها في 2006، أنه ليس مطلوباً منها اليوم أن تعبر أو تأسر أو تقصف حيفا وما بعد حيفا وما بعد بعد لكي تنتصر، يكفي أن تواصل ما تقوم به بعدما مرّ 160 يوماً وهذا الجيشُ “الأقوى في المنطقة” ما زال يستعد لمواجهتها، وفي كل يوم يمر يزداد الاسرائيليون رعباً. ومن يقول غير ذلك، فليعطِ النازحين الصهاينة من الشمال ضمانة العودة إلى البيوت والمزارع والمصانع والمدراس والمنتجعات.
بالخلاصة، الإسرائيلي كذّاب، وهو لا يستعد لشيء لأنه لم يتخذ قراراً. الإسرائيلي عالق أمام ثلاثة احتمالات حيال حزب الله لا يستطيع حسم أي قرار بشأنها:
1- وقف الحرب على غزة ليقف الاشتعال في الجبهة الشمالية تلقائياً، وهذا الامر إن حصل الآن أمام صمود غزة يعني الهزيمة.
2- إطالة أمد هذا الواقع لحين حصول متغيّر ميداني أو تفاوضي، وهذا يعني أنه سيبقى كيس ملاكمة في الشمال حتى ذلك الحين.
3- أن يأخذ قرار الحرب الواسعة مع لبنان كما فعل في 2006، وهنا يقول حزب الله: يا هلا ومرحب.
“يا هلا ومرحب”…لا يغرّن أحدٌ هذه العبارة، ففي كل حرفٍ منها: سيناريو محضّر، والكثير من المفاجآت، التي صار عمرها أيضاً … 18 عاماً من تفاقم الرعب.