’’ما من عامل خارجي يستطيع أن يساعد أو يساند حكومة ما أو جيش ما على الاستقرار ما لم تكن تتمتع هذه الحكومة بتأييد شعبي، وما لم يكن حول هذا الجيش حاضنة شعبية تدافع عنه’’
تصريح لمساعد وزير الخارجية المصري الأسبق السفير حسين الهريدي خلال برنامج “نشرة المصري اليوم” على فضائية “القاهرة والناس”
اثنا عشر عاماً مرّت، ولم تنته الحرب في سوريا بعد. الحرب، كما هو معلوم، ليست جبهات مشتعلة فقط، قد تتقمص أشكالاً عدة، اقتصادية واجتماعية وسياسية، كلها مرّت ولا تزال على سوريا وأهلها، استهدفت إنهاك واضعاف نظام يتمثل بالرئيس بشار الأسد، كلها لم تسقطه.
في آذار/مارس 2011، شكّلت حادثة اعتقال فتيان في درعا، وخروج تظاهرات محدودة اثرها في أكثر من منطقة، انطلاقة مكتملة الأوصاف لسيناريو دموي (أعلن مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 28 حزيران/يونيو 2022 إن ما لا يقل عن 306887 مدنيًا لقوا حتفهم خلال الصراع، إضافة إلى ملايين النازحين داخل وخارج البلاد)، أو كتوصيف أدق لحرب كونية، تبيّن لاحقاً أنه حُضّر لها قبل ذلك، في فترة كانت تعيش فيها المنطقة بأكملها “ثورات” بأوصاف وخلفيات ومآلات مختلفة، سُميت بـ “الربيع العربي”.
النفق المظلم
كل الأطماع والمشاريع، على رأسها إرساء تطبيع المنطقة بأكملها مع العدو الاسرائيلي من خلال اخضاع كل حركات المقاومة، إضافةً إلى تعويض الهزيمة في العراق باتت تمرّ من سوريا. سرعان ما حملت القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، إضافةً إلى الدول العربية، شعارات كـ”حرية الشعب السوري” و”حقوق الانسان في سوريا” وغيرها، لإسقاط الشرعية عن النظام رغم خروج الالاف في مظاهرات في أكثر من محافظة معلنين تأييدهم للرئيس السوري بشار الأسد.
اجتمعت القوى العالمية في جنيف في حزيران/يونيو 2012 معلنة “الحاجة إلى انتقال سياسي”. هذا الإعلان كان مجرد غطاء لتحويل الاحتجاجات إلى صراع مسلح كبير، من خلال ضخّ كميات ضخمة من السلاح والمال أسست لبروز مجموعات كـ “الجيش الحر” و”جيش الإسلام”، ضمّت سوريين إضافة إلى أعداد كبيرة من المرتزقة الذين تدفقوا من بلدان عربية وغربية عديدة للقتال ضد دمشق، بخلفيات وأجندات مختلفة.
منذ ذلك الوقت دخلت سوريا في النفق المظلم: ضُربت وحدة البلد وسيادته، إذ باتت كل المناطق تقريباً مقسمة بين موالية للدولة أو معارضة لها، وبلغت الأحداث ذروتها مع دخول الجماعات التكفيرية كـ”جبهة النصرة” و”أحرار الشام” على خط الصراع، وصولاً إلى كانون الثاني/يناير 2014، حيث سيطرت مجموعة أطلقت على نفسها اسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام/داعش” على مدينة الرقة، وانطلقت لتسيطر على مناطق واسعة في سوريا والعراق. وقد مارست هذه الجماعات أبشع أنواع القتل والإرهاب بحق الشعب السوري، إضافة إلى سرقة الثروات والتدمير الممنهج للبنية التحتية للبلاد، بدعم من دول اقليمية وغربية.
أمام كل ذلك، إضافة إلى حرب إعلامية شرسة اعتمدت على المشاهد الملفقة (مشاهد الهجوم الكيميائي في الغوطة الشرقية نموذجاً) والتضخيم واستثمار كل ما يصب في خانة تجريم النظام، مع غض النظر عن كل ممارسات القتل والإرهاب التي تمارسها ما تسمى “فصائل المعارضة” على اختلافها، وقفت الدولة السورية وجيشها بصلابة وبكل ما اوتيت من قوة وامكانيات للحفاظ على هيكل الدولة وتحصين العاصمة دمشق التي كانت هدفاً للمسلحين، إذ أن سقوطها كان ليشكل ضربة قاسية للرئيس الأسد.
مع تفاقم حدة الصراع، وبلوغ المد الإرهابي اوجه بالسيطرة على مساحات واسعة من الأرض السورية، إضافة إلى دخول الولايات المتحدة مباشرة على خط الصراع (أيلول/سبتمبر 2014) بتشكيلها ائتلافاً قام بتنفيذ غارات جوية إضافة إلى دعم الفصائل الكردية، بحجة القضاء على “داعش” في الشمال السوري، انضمت روسيا (أيلول/سبتمبر 2015) إلى الحرب كداعم للدولة السورية، مما شكل نقطة تحول كبيرة في الحرب، بالتزامن مع الدور الهام الذي لعبته ايران وحزب الله ميدانياً والانتصارات التي حُققت في أكثر من معركة استراتيجية (معركة القصير وحلب نموذجاً).
نقطة التحول هذه تمثلت، بإعادة تمكين السيطرة السورية على مساحات واسعة من البلاد، مما أبعد شبح الإرهاب عن العاصمة (من خلال تطهير ريفها)، إضافة إلى طردهم من حلب والحؤول بذلك دون تحقيق تركيا (من الداعمين الأساسيين للعديد من الجماعات المسلحة) هدفها بالسيطرة على تلك المنطقة، إضافة إلى النجاح في القضاء نهائياً على “داعش” من خلال معارك البادية السورية.
سوريا تصمد تقاتل وتنتصر
المسار الميداني الطويل ترافق مع مسار سياسي كان الأول محركه الأساسي. ففي وقت فرضت فيه موسكو وايران والجيش السوري مساراً مغايراً للأحداث الميدانية، شكل البلدان ما سُمي بمسار استانا، في وقت فشل فيه الغرب من خلال الأمم المتحدة بإحداث أي جديد في المفاوضات بين النظام وما سُمي بالمعارضة التي بقيت مشرذمة وبلا برنامج موحد وفي وقت انكفأت فيه الأخيرة ميدانياً لصالح الجماعات الارهابية.
مسار استانا، الذي انضمت إليه تركيا ايضاً (المتخوفة من النفوذ الكردي شمالاً المدعوم من الولايات المتحدة، والذي دفعها إلى اجتياح تلك المنطقة ضمن أكثر من عملية عسكرية)، هذا المسار الذي نتج عنه الكثير من اللقاءات، أنتج في أيلول/سبتمبر 2018، صفقة (هندسها الروس والأتراك بشكل أساسي) بشأن إدلب والشمال الغربي الذي يسيطر عليه المسلحون (المدعومون من تركيا بشكل أساسي) أسفرت عن وقف القتال على تلك الجبهات.
على مشارف عام 2020، رست سوريا على المشهد التالي: الدولة السورية تمسك بزمام الأمور على الأرض كما لم تفعل على امتداد التسع سنوات الماضية، باستثناء بعض الأجزاء شمالاً حيث رسم الصراع نوعاً من الستاتيكو تمثل بوجود محدود للولايات المتحدة من خلال عدد من القواعد العسكرية، والتي جعلتها الأخيرة منطلقاً لسرقة النفط والقمح السوري (يعد الشمال مركزاً للثروات الطبيعية في سوريا)، إضافة إلى وجود محدود لتركيا، بحجة ضمان الحماية من التمدد الكردي، الذي بقيت أنقرة حتى الأشهر الأخيرة تلوح بشن عملية عسكرية للجمه. أما العدو الاسرائيلي، فلم يجد وسيلة للتعبير عن هاجس هزيمة حلفائه، وفوز اعدائه، سوى استباحة الأجواء السورية من حين لآخر وشنّ غارات هنا وهناك.
رغم وجود هذا المشهد شمالاً، إلا أن 12 سنة تقريباً من الحرب لم تغير وجه سوريا العروبي، دُفن مشروع تقسيمها، بل إن هذه الحرب أنتجت محوراً امتد من ايران إلى العراق إلى سوريا فلبنان فالمقاومة في فلسطين، اشتد عوده وبات يؤرّق كل من أراد ضربه عربياً ودولياً. هنا لجأت واشنطن إلى الحرب الاقتصادية من خلال قانون سمي “قيصر” أنهك الشعب السوري، الذي زعم وتغنى الجميع بالدفاع عن مصالحه طيلة فترة الصراع. لكن الأخير بقي صامداً إلى جانب دولته.
منتصف عام 2020، فرض وباء كورونا نفسه على العالم كله. أدّى ذلك إلى جمود على مستوى أي مسار تفاوضي يتعلق بسوريا، لكن العقوبات بقيت الحاضر الأقوى في يوميات السوريين، وصولاً إلى عام 2022 حيث انحسر الوباء، وبدأت الحرب بين روسيا والغرب في أوكرانيا التي القت بظلالها على العالم بأسره. هنا خرق الجمود رسائل عديدة وصلت إلى أبواب القصر الرئاسي عاكسة ما يمكن تسميته بـ “الانعطافة الكبرى”. ما الذي حدث إذاً وما أسبابه ومآلاته؟
المصدر: موقع المنار