نص الخطبة
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
من أخطر ما يواجه المجتمعات المتدينة هو ان يتحول التدين لديها الى “تديّن شكلي” بحيث يصبح الانسان يهتم بالمظاهر ويتناسى الجوهر ويندفع نحو ممارسة شكلية للعبادات والواجبات ويغفل عن المضمون والمحتوى والمعاني التي تحملها العبادة وعن ما ينبغي ان تتركه في سلوك الانسان واخلاقه وتصرفاته وتعامله مع الناس.
البعض قد يهتم بالصلاة والصوم وسائر العبادات ولا يصلي الا في المساجد، ويكثر من الذهاب الى الحج والعمرة وزيارة العتبات المقدسة ، ويقوم بكل الفرائض والواجبات واحيانا قد يواظب على فعل المستحبات واداء النوافل وقد يقوم لصلاة الليل لكن هذه العبادات لا تؤثر في اخلاقه وسلوكه فتراه يكذب ويغتاب وينشر عيوب الناس ويفضح اسرارهم ويغش ويحتال ويسيء المعاملة في البيت وفي السوق وفي المجتمع.
احيانا اخرى نرى كيف ان البعض يهتم بان يكون مظهره مظهرا يشبه مظهر وهيئة المتدين فيحرص على ان تكون لديه لحية وفي يده مسبحة يسبح فيها واصابعه مشكوكة بالخواتيم ويتشدد بشكل مفرط في صغائر الأمور الدينية ويرافق علماء الدين ويتظاهر بالورع والتقوى ولكن عندما ندقق في تصرفاته واسلوب حياته وسلوكه وتعامله مع الآخرين، نجد انه يسيء معاملة الناس ويتصرف بلا اخلاق مع الناس فيشتم ويسب ويضرب ويتعدى على حقوق الاخرين ويحاول تحصيل الارباح ولو بطرق ملتوية. وهذا النموذج في الحقيقة يسيء للدين والتدين، ويعكس صورة سيئة ومشوهة عن المتدينين والملتزمين بل وينفرون الناس من الدين والتدين .
تاتي ملاحظات كثيرة عن بعض انماط السلوك الاجتماعي. مثلا تجد البعض يتعامل مع الناس خارج بيته باحترام واخلاق لكن يتعامل مع اهل بيته بسوء وغضب وانفعال ، نموذج اخر تراه يتعاطى بلا مبالاة مع شخص لا يعبره ولا يبدي احتراما له لكن عندما يعرف انه ابن الزعيم الفلاني او المسؤول الفلاني او بنت فلان الوجيه او المسؤول يبدي كل احترام ويصير يتقرب من ذلك الشخص.
والاخطر من ذلك ان البعض قد يتمظهر بالدين ليتغطى بالدين ويخدع الناس يعني هو اساسا ليس متدينا ولا ملتزما وانما يتظاهر بالايمان والزهد والعبادات ويقوم بكل الواجبات والاعمال التي يقوم بها المتدينون للوصول الى غايات واهداف معينة، هؤلاء يتسترون بالدين، ويتظاهرون بالورع والتقوى، ولكنهم يستبطنون الكفر والفسوق والعصيان، هؤلاء يستغلون الدين ويتسترون بالطائفية والمذهبية لإشعال الصراعات السياسية، وتأجيج نيران الفتن الطائفية، هؤلاء يتخذون الدين والطائفة او المذهب جسرا ووسيلة ليعبروا من خلاله إلى مواقع السلطة، ويتحصنون خلف جدران الرياء والنفاق، وهم ابعد ما يكونون عن الدين وطاعة الله.
مثل هذه النماذج موجودة ايضا في مجتمعاتنا ، وهؤلاء اخطر من النموذج الاول لان لديه اهداف خبيثة، مثل الذين يتقربون من الناس ومن المتدينين في مواسم الانتخابات النيابية او البلدية او غيرها ويتظاهرون بالايمان والتدين ليكسبوا تأييد المتدينين او الحالة الايمانية او تأييد المقاومة لهم .
ايضا مثل الجواسيس الذين تستخدمهم الاجهزة المخابراتية والاجهزة الامنية ليخترقوا مسيرتنا ومجتمعنا ومؤسساتنا امنيا ويحصلواعلى معلومات واسرار او يقوموا بعمل امني ارهابي او تخريبي فثل هؤلاء يتسترون بالدين يتظاهرون بالتدين من اجل ان ينفذوا الى داخلنا ويحققوا ما يريدون.
ولذلك يجب ان ننتبه وان نتعرف على حقيقة الايمان لنعرف اهله ولنكون من اهله، وان نعرف الحق لنعرف اهله ونكون من اهله.
التدين الحقيقي هو الالتزام بكل ما دعا اليه الدين من ايمان ومعتقدات وتشريعات وحلال وحرام واخلاق وقيم وسلوك وصفات ايمانية ورسالية.
الالتزام بأخلاق الاسلام وادابه في الاداء والتعامل والسلوك هو من صميم الاسلام.
الاسلام كما دعا الى العبادة والطاعة دعا كذلك إلى التحلي بمكارم الأخلاق، وبالصفات الجميلة والأفعال الطيبة والخيرة كالرحمة والمحبة والصدق والامانة والعدل والانصاف والعفو والتسامح وو.
من مظاهر التدين الحقيقي التحلي بهذه الاخلاق وبهذه القيم والصفات الجميلة، وكذلك الالتزام بأداء الحقوق لأصحابها، وحفظ الأمانة، ورد الأموال والديون لأهلها، وحسن التعامل مع العائلة والاسرة والاولاد والوالدين والجيران والاصدقاء والزملاء ومراعاة حقوقهم وحقوق الاخوة وصدق الوعد والالتزام بالتعهدات والوفاء بالالتزامات في المعاملات المختلفة
المتدين الحقيقي هو الذي يسعى في قضاء حاجات الناس بدون مقابل مادي او معنوي، ويدافع عن الحق والعدل، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويشارك في كل نشاط يرفع من قيمة الإسلام والمسلمين, ويعكس صورة مشرقة عن المجتمع المتدين.
التدين الحقيقي هو الخوف من الله واجتناب معاصيه. فهو ليس ذلك الانسان الذي يؤدي العبادات فقط، بل هو الذي يبتعد عن الغيبة والنميمة وسوء الظن واتهام الناس وفضح الناس والتجسس على الناس واكل حقوق الناس.
العبادات قد تتحول الى مجرد عادة اعتاد على ممارستها بحيث انه لو تركها استوحش وشعر بالنقص فتتحول الى مجرد طقوس وعادات جوفاء لا تغير شيئا في مسار حياة الانسان وسلوكه بينما التدين الحقيقي يجعل العبادات لها معنى واثر يظهر في سلوك الانسان واخلاقه ومعاملاته وتصرفاته
التدين الحقيقي هو علاقة حميمة تربط بين الإنسان والله، والله لا ينظر إلى صورنا وأشكالنا ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا وتصرفاتنا.
لا شك ان اجيالنا في العقود الاخيرة تشهد اندفاعا نحو التدين والالتزام الديني بفعل عوامل كثيرة اهمها الحالة الايمانية التي نشأت بعد الثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام الخميني (قدس سره) والمقاومة الاسلامية في لبنان التي اثرت في الاجيال الشابة وعززت حالة التدين لديهم واوجدت جيلا من المتدينين الملتزمين بقيم الايمان والجهاد.
لكن لا زلنا نعاني من تدهور على المستوى الاخلاقي والسلوكي طال كل اوجه معاملاتنا فصرنا نمارس العبادات ونجاهد في سبيل الله لكن البعض منا ممن هو محسوب على الحالة الايمانية لا يتورع عن الكذب والغيبة والنميمة والرشوة وخيانة الامانة والتحرش وبذاءة اللسان والسب والشتم واستخدام العنف داخل الاسرة والاعتداء على حقوق الناس والغش في المعاملة والاحتيال وتعاطي المخدرات واطلاق النار والفلتان والتعديات المختلفة وعدم مراعاة الانظمة والقوانين والنظافة العامة والتعامل بسوء مع الجيران و و و..
عندما لا ترتقي عباداتنا بنا الى الالتزام الاخلاقي والسلوكي فمعنى ذلك ان هناك مشكلة وان ايماننا وتديننا هو مجرد ايمان وتدين شكلي اجوف وليس تدينا حقيقيا ، وان عبادتنا لله هي عبادة شكلية .
ولذلك اعتبر الامام الصادق (ع) ان المعيار في التدين الحقيقي ليس مجرد الصلاة والصوم وطول الركوع والسجود والاكثار من الذكر وقراءة القران وما شاكل بل المعيار هو التعامل باخلاق الاسلام والالتزام بقيم الاسلام والتحلي بالصفات الجميلة.
يقول الامام الصادق (ع) لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شئ اعتاده، فلو تركه استوحش لذلك ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته.
وعنه قال: لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج بالصلاة و الصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة.
ويقول لاحد اصحابه: انظر ما بلغ به علي (عليه السلام) عند رسول الله (ص) فالزمه، فإن عليا (عليه السلام) إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) بصدق الحديث وأداء الأمانة.
وعنه (عليه السلام) قال: إنما سمي إسماعيل صادق الوعد لأنه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة ، فسماه الله عز وجل صادق الوعد، ثم [قال] إن الرجل أتاه بعد ذلك فقال له إسماعيل ما زلت منتظرا لك.
وعنه (عليه السلام) قال: كونوا دعاة للناس بالخير بغير ألسنتكم، ليروا منك الاجتهاد والصدق والورع.
يجب ان نقدم هذه الصورة عن تديننا واخلاقنا وسلوكنا كي نقول لاميركا ولكل من يشن علينا حربا ناعمة تستهدف هويتنا واخلاقنا وسلوكنا اننا مجتمع يقاوم الحرب الناعمة بتمسكه والتزامه بدينه وبقيمه واخلاقه كما يقاوم العدو الذي يحتل ارضه ويحاول سرقة ثرواته وحقوقه.
اليوم الولايات المتحدة الامريكية تستغل الازمة الاقتصادية والمالية والمعيشية في لبنان للامساك بلبنان واعادة السيطرة عليه وتحقيق اهدافها المعروفة فيه .
وهي تعرقل وتمنع وصول اي مساعدات للشعب اللبناني، لابقاء لبنان تحت ضغط الازمات والحصار والعقوبات والاذلال، وادعاءات البعض بان اميركا تتحرك لمساعدة لبنان لن تغير من حقيقة ان اميركا انما تتحرك لمساعدة اسرائيل ونأمين مصالحها بالدرجة الاولى، وانها سبب رئيسي في كل ما يعاني منه اللبنانيون.
يجب ان يعرف اللبنانيون ان اميركا التي منعت لبنان من استخراج النفط والغاز، ومن التوجه شرقا، وحمت الفاسدين والفاشلين، هي عدوهم، وهي من يحاصرهم ويفاقم من ازماتهم من خلال وضع الفيتوات وفرض الشروط.
المقاومة وانطلاقا من خلفيتها الثقافية والانسانية والوطنية تقوم بمسؤولياتها الاجتماعية والسياسية وعلى كل الصعد من اجل ان يعيش اللبنانيون في بلدهم أعزاء بكرامة، وهي تصنع اليوم اقوى المعادلات لفك الحصار الامريكي عن البلد وانقاذه وتحصيل حقوقه والحفاظ على ثرواته، فيما بعض اللبنانيين ممن اعتادوا على الارتهان للخارج وانتقاد المقاومة يكتفون بالمواقف اللفظية ولا يقدمون أية حلول او بدائل للخروج من نفق الازمة.
حزب الله سيستمر في تحمل مسؤولياته تجاه بلده وشعبه ومصر على فك الحصار الامريكي عن لبنان ولن يصغي لكل الصراخ والحملات التي تستهدفه وتستهدف مواقفه الوطنية.
المصدر: بريد الموقع