على نحو مفاجئ ، إستفاق سياسيون ومعلقون معروفون عبر مواقع التواصل للحديث عن عمليات التهريب عبر الحدود اللبنانية- السورية، وبدأوا بنسج معطيات عن حجم التهريب والجهات التي ترعاه في نظرهم.
في الشكل، يثير تناول الموضوع تساؤلات عدة، بالنظر الى انخراط عدد كبير من الأشخاص في التعليق عليه دفعة واحدة وباتجاه سياسي محدَّد، كأن نصاً واحداً إعتُمد من جميع هؤلاء لنشره على منصاتهم وحساباتهم.
في المضمون، رافق هذه الحملة كمٌّ من التضخيم والتضليل.
تضارب في أرقام التهريب
على صعيد التضخيم، يلاحظ أن أغلب من تناولوا الموضوع صوّروا التهريب عبر الحدود على أنه السبب الأول للأزمة الاقتصادية في لبنان. لم تعد هناك مشكلة دَيْن عام مستفحل، أو عجز مزمن في الموازنة، أو خلل كبير في الميزان التجاري، أو نهب وفساد داخلي. المشكلة الأم هي في تهريب السلع “المدعومة” الى سوريا. ما هي الأرقام الدقيقة لحجم عمليات التهريب؟ لا توجد. إذن، كيف يمكن الحكم على أن هذا سبب رئيسي لاستنزاف المال العام؟
هناك أرقام مرسَلة بشكل تقديرات كيفيّة عن حجم التهريب، فمرة يقال إن التهريب يتم بمعدل مليوني ليتر مازوت يومياً بقيمة إجمالية تصل الى مليار ليرة على أساس سعر الصفيحة 9 آلاف ليرة، أي ما يبلغ نحو ربع مليون دولار بسعر السوق الفعلي في لبنان (4 آلاف ليرة مقابل الدولار)، أي أقل من 100 مليون دولار سنويا. في حين تزيد تقديرات أخرى حساب قيمة المازوت المهرب سنويا الى 400 مليون دولار. وبعض السياسيين زاد الحسبة الى مليارات الدولار سنوياً (هكذا بشطحة تصريح). أما وزير الطاقة ريمون غجر فأشار الى “مقارنة بين الطلب على المازوت في نيسان 2019 ونيسان 2020، وتبيّن أن الطلب ارتفع بكمية مليون ليتر وكمية الاستهلاك بالسوق المحلي معروفة”. ولنفترضْ أن المليون ليتر موجه كلياً للتهريب، فإن قيمته تصل الى 125 ألف دولار شهرياً، أي مليون ونصف المليون دولار سنوياً. وفي غياب أرقام دقيقة عن الكميات المهرَّبة، تصبح الإختلافات الكبيرة في أرقام تهريب المازوت مادة في سوق الإستهلاك السياسي. وهناك بالتأكيد أبواب للهدر والفساد والنهب تبلغ أضعاف أضعاف هذا الرقم ولا تُعطى حقها من الإهتمام.
منافذ التهريب
على صعيد التضليل، وهنا بيت القصيد بالنسبة لهؤلاء، يُنتج “خطاب التهريب” الحدودي فرضية مسبقة لا ثاني لها تقول إن التهريب يتم عبر معابر غير شرعية يرعاها حزب الله. المعروف أن الطرق الترابية التي قد تُستخدم من قبل المهربين في منطقة بعلبك- الهرمل تقع تحت مراقبة الجيش اللبناني الذي ينشر أبراج مراقبة بدعم لوجستي بريطاني، مما يصعّب من عمليات التهريب. إضافة الى ذلك، كشفت الوقائع خلال الأيام الماضية عن ضبط محاولات تهريب لمادة المازوت عبر معابر شرعية في الشمال، وتحديداً في العبودية، حيث لا حجة للقول إن هناك حضوراً لحزب الله في المنطقة. لكن مطلقي حملة التضليل لم يتوقفوا، لأن الوقائع والأرقام ليست مهمة؛ المهم بالنسبة لهم الإستمرار في توريد الأفكار المنمَّطة عن حزب الله.
خطاب التهريب ولعبة الدولار
“خطاب التهريب” بدأ منذ فترة مع بدء أزمة الدولار، أيضاً من خلال الحديث عن تهريب الدولار الى سوريا، والهدف – كما هو واضح- صرف الإنتباه عن المسبِّب الحقيقي لأزمة الدولار في لبنان، ولا سيما الوضع الإقتصادي المتردي وتجاوزات القطاع المصرفي التي أطاحت بودائع الناس. وليس من قبيل الصدف أن من وجهوا الإتهام الى سوريا وإلى حزب الله في هذا الشأن هم من دافعوا بقوة عن حاكم مصرف لبنان برغم تهافت سياساته النقدية وتناقضاتها. واستُكملت حملة التضليل باتهام حزب الله بالمضاربة على الليرة، من خلال التصويب على صيارفة في مناطق محسوبة على الحزب، ثم سكنت هذه الإتهامات بعد أن تأكد أن حزب الله لا يغطي من طالتهم الاتهامات وتم توقيف بعضهم (أين الحماية المزعومة؟)، بينما اتضح أن هناك لاعبين كباراً في هذا الملف، والجميع بانتظار اتضاح مآل التحقيقات في هذا الشأن. ولا بد من التذكير بأن الأمين العام لحزب الله أكد غير مرة أن الحزب يضخّ الدولار في السوق ولا يشتريه لحسابه أو لحساب أحد، وهذه حقيقة يعرفها الصيارفة.
ملف قديم
ولم يوفر خطاب التهريب توظيف تهريب الطحين، والضحية الأولى لهذا الخطاب دائماً هو الحقيقة التي لا تجد سبيلاً لها الى أذهان هؤلاء، لأنهم في الأساس لا يريدون التوصل اليها، كما يريدون حجبها عن سائر الناس من خلال مواصلة الضجيج والتشويش على أية بيانات قد تفيد في حسم الموضوع.
والحقيقة أن موضوع التهريب بين لبنان وسوريا ليس جديداً، فهو قديم قِدم الحدود بين البلدين، ويقوم على تهريب السلع التي تكون أرخص في أحد البلدين الى البلد الآخر حيث تكون أغلى. ونشط التهريب خلال فترات عدة معاصرة من سوريا الى لبنان، لاسيما في ما يتعلق بالبنزين والمازوت والطحين والمواد الغذائية المصنَّعة بالإستفادة من رخص ثمنها في سوريا بالمقارنة مع أسعارها في لبنان. ومعروف أن بعض اللبنانيين، وخاصة من القاطنين قرب الحدود، كانوا يتبضعون دورياً في السوق السورية من أجل التوفير في ميزانياتهم، كما لجأ غيرهم الى التهريب للتربّح والإستفادة من فرق أسعار السلع المدعومة من الحكومة السورية. وبسبب الحصار الذي تتعرض له سوريا حالياً وتدهور سعر العملة الوطنية، من الطبيعي أن تنشط عمليات تهريب مواد أساسية مثل المازوت والطحين من لبنان الى سوريا على يد بعض تجار الأزمات.
ويقع البَلَدان حالياً في قلب أزمة اقتصادية كبيرة، مما يفعّل عمليات التهريب التي تكتسب طابعاً تجارياً. وهذا يصحّ على البلدين معاً، حيث تدرّ تجارة التهريب أرباحاً.
ومع الإقرار بوجوب مكافحة التهريب، بموازاة تفعيل العلاقات التجارية الشرعية مع سوريا، فإن من حقنا التساؤل: في أي سوق يتم صرف التضخيم المقصود حول حجم التهريب والجهات التي تتحمل المسؤولية عن استمراره؟ وإلى متى يتم إلهاء الناس بمواضيع محقة جزئياً، ويراد تغطية كل المشهد الحاضر بها وتهريب حقائق أساسية عبرها ؟!
المصدر: موقع المنار