رصاصة أو شظية غدرت بهم، فأوكلت لآثارها مهمة عطب إعياء رجال استطاعوا ألّا يتركوا للقهر أي زاوية في نفوسهم، قرروا، حاولوا وصمدوا، فوقفت العوائق الجسدية عاجزة أمام إرادة أصحابها.
توقفنا عند نماذج من الجرحى السوريين نتيجة الحرب، الذين رغم ما حملوه من علامات واضحة تشير لمواجهة جسدية خاضوها ضد رحى الحرب، ففتكت بأحد أعضائهم، قرروا متابعة مسار الحياة شبه الطبيعي وتخطي عبء خسارتهم الجسدية.
موقع قناة المنار جال على تجارب لعدد من الجرحى السوريين في مناطق ريف حلب الشرقي، تجاوزوا مصابهم، فتابعوا أعمالهم، ليصبحوا نماذج إنسانية يحتذى بها.
زكريا كور علي، جريح مدني من ريف حلب الشمالي، ودّع ابنه الشهيد يحيى، وحاول بعدها تضميد جراحه وزوجته المصابة معهما بفعل قذيفة صاروخية استهدفت منزل العائلة، قذيفة أطلقها الإرهابيون على المناطق الآمنة في بلدة نبّل المحاصرة آنذاك.
العمود الفقري، الحوض، الساقان وكسر بالكتف إضافة لنزيف داخلي، تلك إصابات كادت تودي بحياة زكريا أحد ضحايا قذائف الإرهاب، كل هذا اجتمع واستدعى معالجة مستمرة، كما زوجته التي شاركته بالحياة تقاسمت وإياه آلام الإصابة، نابها هي الأخرى 30 كسر في قدميها، واحدة من تلك القدمين لا تعمل أبدا.
الإصابات الكارثية على كليهما ألزمتهما البقاء على سرير المشفى سبعة أشهر، ولم يغادرا العلاج المستمر حتى الآن.
بعد تلك الفترة العصيبة قرر الزوج ان يأخذ سيارة أجرة وراح يعمل عليها لأنها من الاعمال الممكن توفرها نسبيا ولا يتحيج إلى التنقل على القدمين تقريبا، أما الزوجة المضطرة للوقوف على ساقيها لمزاولة عملها الذي عادت لمتابعته في صالة للتصفيف والتجميل النسائي، فهي تعاني كثيرا وكل نيف من الوقت تحتاج لاستراحة الجلوس، وما زالت تستعين أحياناً بـ”الووكر” ليساعدها كلما تعبت، قالت بلهجتها المحلية بكل قوة وثقة بالنفس “الحياة الطبيعية لن تعود إلينا؛ لكن علينا أن نذهب باتجاهها لنعود نحن إليها”، كما حال زوجها سائق الأجرة الذي يقطع مسافات يومية بسيارته وهي مصدر رزق العائلة الذي يتساعد بالشراكة مع مهنة زوجته على تحمل أعباء الحياة.
نموذج آخر الجريح عيسى حداد، رجل يستمد من إيمانه بالله قوة تعينه على تجاوز إصابته التي أدت إلى انقطاع في عصب ذراعه، ثلاث سنوات من المعاناة، بعد التحاقه بالجيش السوري للدفاع عن بلدته المحاصرة آنذاك، يفتخر بإصابته هذه التي أتت نتيجة قيامه بواجبه، ومن أجل الدفاع عن حقهم بالحياة، تلقى المساعدة من الأصدقاء والأهم شقيقه الأكبر سناً صاحب محل لبيع المنظفات، حيث دعاه للعمل معه، وهما شريكان الآن في العمل، تجاوز عيسى إصابته مصرحاً عن مساعدة يتلقاها من بيت الجريح إضافة لعمله في المتجر الصغير، ويفخر أكثر بنظرات الاحترام من أصدقائه الذين يتبادلون وإياه الدعم النفسي كلما أحاج الأمر شخصاً ما، خاصة من ذكرهم عيسى أنهم في حال مشابه لإصابته.
مرتضى صاحب ورشة الألمنيوم، وبعد وقوع بلدته الزهراء في الحصار، همّ مع بقية الشبان للدفاع وصد هجوم إرهابيي لجبهة النصرة، رفض الخضوع ويدعو غيره ألا يخضع للمرض أو الإصابة، ولا الشلل، فإصابة مرتضى بالرأس تسببت بعطب في نصفه الأيسر، ولكنه أجهد نفسه كثيراً في العلاج متغلباً بإصراره، إلى أن وصل لنتيجة ترضيه رغم بقاء آثار واضحة على حركته، مرتضى عاود العمل في ورشته بنصف جسد مكلل بالإرادة والإصرار المعينان له على قطع طريقه نحو متابع الحياة والعمل، بكل حرفية ودقة.
باسم سلامة، أصيب في منطقة الراموسة، يرافقه شلل في كامل ذراعه الأيمن، افتتح متجراً للألبسة بمساعدة ودعم من والده بعد أن أيقن الوالد المُسن إصرار ابنه على متابعة الحياة وخوض صراع من الإعاقة ليتغلب عليها، يدعو كل المصابين، وكل من لديه أي إعاقة إن كانت نتيجةَ الحرب أو غيرها، إلى متابعة الحياة والتغلب على مصابه، وألَّا يسلم للعطب أمره.
هذه النماذج كلها صرحت عن التحاقها ببيت الجريح، حيث تحدث أحمد طالب مسؤول مكتب التنمية الاجتماعية للجرحى في مؤسسة الجريح بريف حلب الشمالي، لموقع قناة المنار موضحاً مهمة المؤسسة، إذ أن 280 جريحاً بإعاقات متنوعة، منهم عسكريون ومدنيون، يرتادون أروقة ومكاتب ما أصبح يُعرف بـ”بيت الجريح”، منهم من استطاع أن يكمل بمهنته وأعماله التي كانوا يقومون بها قبل إصاباتهم، في ظروف الحرب المختلفة.
يضيف طالب “أكثر من جهة تقدم المساعدات للجرحى عبر مؤسسة بيت الجريح، وِفْقَ الإمكانيات المتاحة – حسب توضيحه-، وهذه المساعدات تتنوع بين طبية وأطراف صناعية لتمكينهم من مواصلة الحياة، وإضافة لذلك مساعدات مالية وغذائية تصلهم بين حين وآخر، كلما تم تزويد الجمعية بدفعة جديدة من إعانة الجهات الحكومية أو الخاصة والأهلية.
هذه النماذج الإنسانية تحمل في كل ما تقوم به، إصراراً وإرادة على متابعة الحياة بعد كل المصائب التي ألمّت بهم فأقعدتهم فترة ليست بقصيرة، كانت كفيلة أن تذيقهم ويلات الصراع من الإعاقة التي رفضوها، وهي احد نماذج الانتصار السوري على الحرب.
المصدر: موقع المنار