نص الخطبة
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ التوبة: 119.
ويقول تعالى: ﴿ وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ الزمر: 33.
الصدق هو من معايير الإيمان والتدين الحقيقي فليس المعيار في التدين الإعتقاد الصحيح وأداء العبادات فقط بل المعيار هو الصدق وأداء الأمانة والإلتزام بالقيم الأخلاقية والسلوكية والإجتماعية التي ارساها الاسلام للتعامل مع الآخرين.
يقول الامام الصادق عليه السلام: لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده فإنّ ذلك شيء اعتاده فلو تركه استوحش لذلك ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته.
يعني اذا اردت ان تختبر مدى التزام الرجل بالدين لا تختبره بالصلاة والصيام لأن ذلك ربما يتحول الى عادة لو تركها يستوحش وإنما اختبره بالصدق هل اذا تحدث صدق وهل اذا تعامل مع الناس يصدق في معاملاته ام يكذب ويراوغ ويحتال ويلعب على الحبال ويحاول التملص من الحق الذي عليه؟
هذا هو المعيار الحقيقي والصحيح للتدين والالتزام والاستقامة،الصدق.. بل إنّ الوصول إلى المقامات السامية والمنازل الرفيعة حتّى للأئمّة المعصومين (عليهم السلام) كما في بعض الروايات إنما يكون بصدق الحديث وأداء الأمانة، ففي حديث بالغ الأهمّيّة عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيه لأحد أصحابه: “اُنظُر مـا بَلَغَ بِهِ علي(ع) عِندَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَالزَمهُ, فَإنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) إِنّما بَلَغَ مـا بَلَغَ عِندَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بِصدقِ الحَدِيثِ وَأداءِ الأمـانَةِ
ولذلك نرى تشديدا وتركيزا كبيرا في القرآن الكريم وفي السنة النبوية ولدى الأنبياء والرسل والأئمة (ع) على ضرورة التحلي بالصدق، والإبتعاد عن الكذب.
لقد أمرنا الله تعالى بالصدق وأراد للمؤمنين جميعاً أن يكونوا صادقين وان يكون الصدق عنوان شخصيتهم وعلامتهم التي يتميزون بها ، أن يكون سمة وسجية وملكة راسخة في نفس الانسان.
يقول تعالى يقول تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ التوبة: 119.
واعتبر الصدق من صفاته سبحانه وتعالى, حيث قال: ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ﴾. ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾. ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾.
وهو من صفات الأنبياء والرسل جميعاً وصولاً الى نبينا محمد الذي كان معروفاً ومشهوراً بالصدق والأمانة .
وقد قال الله- عزّ وجلّ-: ) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ النجم: 2 – 4.
ويقول تعالى: ﴿ وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ الزمر: 33.
والصدق الذي امرنا الله به هو الصدق في كل شيء وفي مختلف المجالات :
أ-الصدق مع الله:وهو أن يلتزم الإنسان بما عاهد الله عليه عندما آمن به وبدينه, لأن الإيمان عهد بين الإنسان وبين الله على القيام بكل ما أمر الله به والإبتعاد عن كل ما نهى الله عنه, بحيث يحب ما يحب، ويكره ما يكره، ويفعل ما يأمر.
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ الأحزاب: 23، 24.
من أبرز مصاديق الين صدقوا ما عاهدوا الله عليه هم أصحاب ابي عبد الله في كربلاء الذين وقفوا الى جانبه ولم يتخلوا عنه وصدقوا معه وثبتوا على ولايته وطاعته ونصرته.
1-ومن الصدق مع الله, الصدق في النية, بمعنى أن يكون الإنسان مخلصا لله في عباداته وطاعاته وأعماله بحيث يكون القصد والدافع والباعث والغاية والهدف منها هو الله وليس طلب الجاه او السمعة او الثناء والمديح او ما شابه ذلك , فالصلاة لله وليس رياءّ, والصيام لله وليس رياءً, والإحسان للناس لله وليس لكي يمدحه الناس, وهكذا كل الأعمال اذا عملها الإنسان خالصة لله عز وجل، فهو صادق النية.
2-ومن الصدق مع الله أيضاً, الصدق في الأعمال التي يؤديها الإنسان لله, ومطابقة الظاهر مع الباطن والخارج مع الداخل، فالصادق في أعماله هو الذي يخشع مثلاً في صلاته في الظاهر ويكون باطنه خاشعاً لله أيضاً, يظهر الخوف من الله ويكون داخله وباطنه خائفاً من الله, يصلي لله ويتعبد لله في الظاهر ويكون قصده وباطنه طاعة الله والحصول على ثوابه وليس شبئاً آخر, يتناهى ويبتعد عن المنكرات في العلن وأمام الناس وكذلك في السر لأنه يخاف الله وغضبه وعقابه..وهكذا,فباطن الإنسان ينبغي أن يكون كعمله الظاهري وما يضمره في داخل سريرته ينبغي أن يكون منسجماً ومتطابقاً مع عمله العلني فقديكون فعل الإنسان حسنا وعمله جيدا ولكن باطنه شيء آخر, فلا ينبغي أن يغتر الإنسان بأفعال البعض فربما كان أداؤه للصلاة ليس الخوف من الله وليس مرضاة الله والحصول على ثوابه بل الوصول الى غايات ومنافع ومصالح معينة فمثل هذا يكون كاذباً وليس صادقاً في أعماله.
يقال أن أن عبدالله بن الزبير توسط لدى زوجة عبدالله بن عمر أن تكلم زوجها كي يبايعه بالخلافة, فكلمته في ذلك وقالت له: هذا الرجل كثير الصلاة والصيام والقيام في الليل وهو جدير بالمبايعة لتقواه, فقال لها: أما رايت البغلة الشهباء التي كنا نراها تحت معاوية بالحج اذا قدم مكة؟ قالت: بلى قال: فإياها يطلب إبن الزبير بصومه وصلاته. هذا من الإغترار بالظاهر بينما الباطن قبيح.
3-ومن جملة الصدق في الأعمال ليس مطابقة الباطن للظاهر والسر للعلن فقط بل أيضاً مطابقة القول والفعل في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والإرشاد, فاذا طابق قوله فعله كان صادقاً, وإلا فهو كاذب, فمن أمر بالمعروف ولم يأتمر ونهى عن المنكر ولم ينته ووعظ الناس وهو لا يتعظ كان كاذباً.
ب- من اهم مجالات الصدق، الصدق في القول، وصدق اللسان، بان يكون صاحب لسان صادق, وصادق اللهجة, وصادق القول.
والصدق في القول يوجب على الإنسان المؤمن أن يحفظ لسانه فلا يتكلم إلا بصدق, ولا ينطق إلا بحق، ولا يتحدث إلا عن علم ومعرفة, كما قال تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ﴾.
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾،
1-والصدق في القول مطلوب وواجب داخل الاسرة, الزوج يجب أن يكون صادقاً مع زوجته وأولاده, والزوجة مع زوجها وأولادها.
على الآباء والأمهات وكافة المربين أن يغرسوا فضيلة الصدق في نفوس الأطفال، حتى يشبوا عليها ويعتادوا عليها، حتى تصبح جزءاً من شخصيتهم وسلوكهم في أقوالهم وأحوالهم كلها
2- الصدق في القول مطلوب وواجب في المعاملات المالية والتجارية وعند البيع والشراء وعند إبرام سائر العقود التي يتداولها الناس. فاذا لم يكن هناك صدق في المعاملات والبيع والشراء وانتشر الكذب والخداع والإحتيال واللعب بمصالح الناس يختل النظام الإجتماعي العام للناس وتتوقف المعاملات وتنعدم الثقة .
اليوم نتيجة انتشار الكذب في المعاملات وعدم الصدق في الوعود يفقد الكثيرون زبائنهم ومصداقيتهم, وبالتالي يفقدون مصالحم لأن الناس تتجنب التعامل معهم .
هناك أيضا الكثير من الخلافات التجارية والمالية التي تقع بين الناس ناشئة عن عدم الصدق, لان الناس لم تصدق في تعاملاتها مع بعضها.
اذن الصدق في القول مطلوب وواجب ليس دينياً وأخلاقياً فقط بل واجب عقلائي وإجتماعي أيضاً, لأنه لا تنتظم حياة الناس بدونه.
3-والصدق في القول مطلوب وواجب في موضوع الشهادة, والتقييم وتزكية الأشخاص وغيرها، كما قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ النساء: 135.
4- ومطلوب في تأدية الأعمال والحقوق، ومطلوب وواجب أيضاً في نقل الأخبار؛ سواء كان الناقل شخصاً أو وسيلة إعلامية مجلة جريدة إذاعة تلفزيون أنترنت أو وسائل إتصال حديثة, وهذا يتطلب من الناقل التثبت فيما يقال واجتناب الظنون والأوهام والإشاعات والأقاويل والخبريات التي ترمى هنا وهناك، والحذر من التحدث بكل ما يسمع ونشر كل ما يكتب وينقل خصوصاً عبر وسائل التواصل الإجتماعي ولا سيما عبر الفايس بوك والواتس أب. فعن رَسُولُ اللَّهِ (ص) كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ».
5- والصدق مطلوب في تدوين التاريخ, وتوثيق الوقائع والاحداث، وفي العمل السياسي.
اليوم أحد مشكلات السياسة والسياسيين والأنظمة الحاكمة والقوى الكبرى المستكبرة أنها غير صادقة فيما تدّعيه من نصرة الشعوب والدفاع عن حقوق الإنسان والوقوف إلى جانب المطالبين بالحرية والعدالة والديمقراطية.
الولايات المتحدة هي أكثر جهة دولية تمارس المكر والخداع والنفاق في العالم، وهي صاحبة اليد الطولى في كل المآسي والأزمات التي تعاني منها دول وشعوب المنطقة من العراق مروراً بسوريا وفلسطين وصولاً إلى اليمن.
ففي العراق يحرّكون الفتنة من أجل إقتتال العراقيين فيما بينهم ليتمكّنوا من السيطرة على هذا البلد وفرض اراداتهم على شعبه بعدما وجدوا أنهم لم يحققوا نتائج مهمة وكبيرة طيلة السنوات الماضية.
وفي سوريا يحاول الأمريكي والغرب تأمين استمرار الإرهابيين في إدلب من أجل المزيد من الخراب والدمار لهذا البلد، ويهددون بأن المعركة في إدلب خط أحمر، لأن إدلب هي الورقة الوحيدة المتبقية بين أيديهم فإذا خسروها فقد خسروا كل شيء في سوريا ولن يحصلوا لا على مكاسب سياسية ولا اقتصادية.
أما في فلسطين فالعدوان الأمريكي على القضية الفلسطينية متواصل بزخم غير مسبوق منذ تولي ترامب رئاسة أميركا، ومن يدقق في الإجراءات الأميركية منذ تولي ترامب الرئاسة يدرك أن مشروع تصفية القضية الفلسطينية قطع في فترة زمنية قياسية أشواطاً كبيرة غير مسبوقة ابتداء من إعلان القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إلى القدس مروراً بتبني يهودية الدولة ووقف تمويل “الأنروا ” وأخيراً إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن.
ما قدمته إدارة ترامب حتى الآن لليكان الصهيوني يفوق ما قدمته الإدارات الأمريكية مجتمعة، وما يشجع إدارة ترامب على المضي في سياساته هذه تجاه القضية الفلسطينية هو عجز المجتمع الدولي ومؤسساته والأمم المتحدة ومجلس الأمن من الوقوف بوجه هذه الإجراءات غير القانونية، والتواطؤ العربي وخاصة السعودية مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لتنفيذ وإنجاز صفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية.
وحده الشعب الفلسطيني يقاوم كل هذه الإجراءات وهو قادر بوحدته ومقاومته وتضامن الشعوب معه ومع قضيته أن يُفشل هذه المؤامرة الكبيرة على هذه القضية المقدّسة.
أما في اليمن فالعدوان السعودي على هذا البلد يتواصل في ظل غياب الضمير الإنساني ومؤسسات حقوق الانسان.
الشعب اليمني يُقتل بسلاح أمريكي وبغطاء أمريكي وبشراكة أمريكية فعلية مع السعودية في العدوان على هذا البلد.
على شعوب المنطقة أن تتدرك بأن أمريكا تكذب وتخادع عندما تدعي أنها صديقة الشعوب وأنها تدافع عن حقوقهم وهويّتهم وديمقراطية بلدانهم.
هي على العكس من ذلك هي شريكة في قتل الشعب الفلسطيني واليمني والسوري ولا يهمها في المنطقة إلا مصالحها والمصالح الإسرائيلية، والطريق الوحيد لمواجهة كل مشاريعها هو المقاومة؛ والمقاومة قادرة على إفشال مؤامراتها كما أفشلت حتى الآن الكثير من مشاريعها في أكثر من مكان في المنطقة، لكن الأمر يحتاج إلى إرادة صلبة وإلى صبر وثبات (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
والحمد لله رب العالمين
المصدر: موقع المنار