لسنا من العلم والجدارة في الفقه الإسلامي أو اللاهوت المسيحي، أو في ثقافات الأديان الأخرى، لِنَطرح بعُمق موضوع ارتباط الدين بالسياسة، وإذا كان البعض يُطالب بفصل الدين عن الدولة، فهو لا يستطيع فصل الثقافة الدينية عن البُنية المجتمعية، والأمثلة متوافرة عبر العالم عن أحزابٍ سياسية / دينية، إن لم تكُن النصوص الدينية مرجعها السياسي، فهي على الأقل تستظلّ بِقِيَم الدين، ولعلَّ أوروبا مثالٌ في هذا المجال، حيث تنتشر الأحزاب ذات التسميات المُتَّصِلة، سواء كانت إشتراكية مسيحية أو ديموقراطية مسيحية أو ليبرالية أو ما شابه، وهي في إنسجامٍ تام مع الأنظمة العلمانية التي تحكم الدول الأوروبية، لأنها في انسجامٍ مع تطلُّعات قواعدها الشعبية.
وعندما نتحدَّث عن قِيَم الدين في التوجيه السياسي والوطني، لا نستطيع أن نأخذ الكيان الصهيوني مثالاً، حيث استغلال الدين أداة لإنتاج مجتمع عنصري يهودي، ولا أن نأخذ المملكة السعودية مثالاً آخراً حيث ثقافة التكفير لكل آخر خارج المذهب الوهابي سائدة وبِحَدِّ السيف، لكننا من خلال قانون “حق المواطنة” مثلاً، في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، نعتبر أن الدولة الدينية، من خلال إقرار المساواة والعدالة بين المواطنين، تستطيع بناء مجتمعٍ مُتجانسٍ ومنفتحٍ، وبلا عُقَد فصل عنصري أو مذهبي أو إتني، ومن هنا تكتسب الشرعية الدينية شرعيتها الوطنية، خاصة متى كانت الثقافة الشعبية تنهَل قِيَم المواطنة وواجبات وحقوق المواطِن من الكتب السماوية والإنتماء القومي معاً، ومتى كانت المرجعية الدينية تحمل القِيَم الإنسانية النبيلة، وما أكثر هذه المرجعيات التي لعِبت أدواراً وطنية عظيمة حاضنة لشعوبها من خلال خطابٍ وطنيٍّ جامع، كما هو واقع المجتمع العراقي مع المرجعية الكبرى آية الله السيد علي السيستاني.
نذكُر السيد السيستاني تحديداً في مقالتنا، لأن مدينة الموصِل العراقية ما زالت تُحيي احتفالات النصر بتحريرها من التكفيريين الإرهابيين، ونهدِف الى تبيان قيمة الفتوى التي تحمل هالة دينية، لِتُصبح أمر عمليات وطني ميداني، متى كان صاحب الفتوى هامةً وطنية وقومية كبيرة، موثوق بحكمتها، وقد وصَّف سماحة السيد حسن نصرالله مساء الثلاثاء الماضي، في كلمته لتهنئة أبناء الموصِل خاصة، والعراق عامة، أثر ووقع فتوى السيد السيستاني في استنهاض همم العراقيين على مختلف مذاهبهم ومشاربهم الدينية والسياسية والإتنية لتحرير الموصل وقال سماحته للتذكير بهذه الفتوى التي صدرت بعد سقوط الموصل بأيدي الدواعش:
“المحنة كانت كبيرة جداً على العراقيين، وحصلت حينها حالة ذهول وإحباط، وحجم ما حصل كان ضخما جداً، وجاءت فتوى المرجعية الدينية آية الله العظمى السيد علي السيستاني، بوجوب الدفاع ومواجهة داعش بكل قوة، وكانت فتوى المرجعية، هي المفصل الحاسم والبداية الحاسمة لهذه النهايات الجميلة والإنتصارات الكبرى”، وأضاف سماحته: “تمكنت هذه الفتوى من استنهاض الشعب وإخراجه من حالة الذهول واليأس، وهذا أدَّى لتأسيس حشد شعبي مبارك، شكَّل قوة للعراق الى جانب القوات العراقية، ويبقى الأهمّ، التفاعل الشعبي من كل المناطق والانتماءات..، وأن عدم الاصغاء الى الخارج هو نقطة مهمة جداً، لأن دوره كان تثبيط العزائم والقول للعراقيين انكم لن تستطيعوا الانتصار على داعش..وكان هدفه إثارة الخلافات بين العراقيين”.
وقد يكون الحشد الشعبي العراقي، الذي انضمَّ إليه مقاتلون من كل الإنتماءات العراقية، النموذج الوطني والقومي، عن مُكَوِّن وطني مَبنِيٍّ على قِيَم دينية، وأخذ على عاتقه قضية تحرير وطن بالتآزر والتضامن مع سائر المكونات العراقية الأخرى، التي تجمع ما بينها القِيَم الوطنية والإنسانية، ونحن في لبنان كانت من أرضنا البدايات في إعطاء الدروس، بإعطاء الهالة الدينية مظلَّة وطنية، وحرَّرت المقاومة الأرض، وأنجزت عامي 2000 و 2006 وما بينهما وما بعدهما ما تعجز عنه جيوش، وما لا تجرؤ عليه أمَّة العرب بكاملها، ولعلنا في لبنان، خلال عملية ترسيم الخرائط لدويلات مزعومة على مدى ست سنوات من ربيع الإنتحار العربي، بقي الوطن اللبناني الذي واجه بشعبه وجيشه ومقاومته كل محاولات الإرهاب، خارج مشاريع الترسيم المشبوهة، وهو قادمٌ على ترسيم حدوده الدولية مع سوريا في جرود عرسال، مُحرَّرة مُطهَّرة من دنس الدواعش، بدعمٍ شعبيٍّ لبناني للجيش والمقاومة، والآتي من الإنتصارات قريب، ما دمنا ننعم بالقامات الوطنية والقادة الهامات…
المصدر: موقع المنار