أمين أبوراشد
صناديق اقتراع الإنتخابات الفرنسية أفرزت بدورتها الأولى ما لا تتمناه كافة أنظمة الحكم في دول الإتحاد الأوروبي، وقد سبق أن حذَّر المفوض الأوروبى للشؤون الاقتصادية والمالية بيار موسكوفيتشي، فى مقابلة مع صحيفة “داي زايت” البلجيكية خلال شهر آذار / مارس الماضي، أن فوز زعيمة حزب “الجبهة الوطنية” مارين لوبان فى الانتخابات سيعني من حيث الجوهر نهاية أوروبا، وأضاف موسكوفيتشي، أنه إذا نفَّذت لوبان بعد فوزها وعودها الإنتخابية وسارت بإجراءات خروج فرنسا من الإتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو فإن أوروبا المعاصرة ستختفى من الوجود بشكلها الحالي.
نفس المخاوف أبداها سياسيون أوروبيون مُخضرمون، أن خروج بريطانيا كإحدى الدول الخمس الكبرى في الأمم المتحدة من الإتحاد الأوروبي، والخروج المُرتقب لفرنسا الدولة الثانية الكبرى في الأمم المتحدة من هذا الإتحاد في حال فوز لوبان، سوف يُغيِّب الهيبة السياسية للإتحاد الأوروبي من على منبر أعلى منظمة دولية، وهذا ما يُبرِّر النفير العام غير المُعلَن في أوروبا لضرورة إسقاط مارين لوبان في الدورة الثانية، سيما وأن خصمها إيمانويل ماكرون يحمل برنامجاً إقتصادياً وسياسياً واعداً لقرنسا ضمن حُضن الإتحاد.
المحللون السياسيون الفرنسيون، عَزُوا بلوغ لوبان الجولة الثانية من الإنتخابات الى غياب الأحزاب التقليدية العريقة في فرنسا، وفشل الحزب الإشتراكي خلال عهد فرانسوا هولاند في تطبيق خُطط عملية لمواجهة تبعات الأزمة المالية العالمية، التي انعكست ركوداً إقتصادياً وبطالة في سوق العمالة الأوروبية ومن ضمنها الداخل الفرنسي، فيما تساءل محللون إقتصاديون فرنسيون، عن جدوى وصول لوبان الى الإليزيه، وهي التي تدعو الى إغلاق حدود فرنسا لمنع إغراق السوق بالمنتجات الأوروبية المستوردة، والى الإنسحاب من الإتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو وعزل فرنسا اقتصادياً وسياسياً عن محيطها وعن العالم.
وإذا كانت بعض وسائل الإعلام العالمية قد افترضت، أن روسيا تميل الى تأييد مارين لوبان، وأن القرصنة الإلكترونية الروسية التي مُورست لصالح دونالد ترامب في الإنتخابات الأميركية، سوف تتكرر في فرنسا لصالح لوبان، فإن الرئيس فلاديمير بوتين أعلن أن روسيا تحترم خيار الفرنسيين وتؤيد إقامة علاقات جيدة مع باريس، في الوقت الذي جاهرت ألمانيا كأبرز قوة سياسية وأعظم قُدرة إقتصادية أوروبية عن دعمها للمرشَّح إيمانويل ماكرون، في ردٍّ مُعلن على مارين لوبان التي تباهَت خلال حملتها الإنتخابية أنها لا ترضى بتبعية فرنسا لألمانيا في القرارات السياسية والإقتصادية، وأنها “ليست سكرتيرة عند المستشارة الألمانية”، وقد ردَّت المستشارة يوم أمس بأعنف هجوم على من تسوِّل له نفسه الإنسحاب من الإتحاد الأوروبي وقالت: لن تكون إجراءات خروج بريطانيا من الإتحاد سهلة، في غمزٍ مباشر الى مارين لوبان التي تحمل لواء الإنسحاب.
صحيح أن أحزاب اليمين الأوروبي المتطرِّف في بلجيكا وهولندا والنمسا والدانمارك، قد انتعشت بفوز لوبان في الدورة الأولى للإنتخابات الرئاسية الفرنسية، لكن التظاهرات الشعبية في ألمانيا التي حرَّكها حزب “البديل من أجل ألمانيا” بزعامة اليمينية المتطرِّفة فراوكي بيتري التي تُعتبر “لوبان ألمانيا”، والتي تستعد لمواجهة إنتخابية في الصيف المقبل لمواجهة الحزب الديموقراطي المسيحي بزعامة المستشارة ميركل، هذه التظاهرات كانت لافتة وكأنها رسالة من “بيتري” الى “ميركل” عمَّا ينتظرها في الساحة الإنتخابية الألمانية، خاصة أن الشارع اليميني في ألمانيا يتناغم مع مارين لوبان في موضوع ضرورة وقف هدر الأموال الوطنية لصالح الإتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، ورفض استقبال اللاجئين وإقفال الحدود لمنع تسلل الإرهاب.
وإذا كانت مسألتا اللجوء والإرهاب تشكلان الهاجس الأوروبي المشترك، فإنهما العنوانان الوحيدان لحملة مارين لوبان الإنتخابية، لدرجة أنها ربما تتمنى حصول عملية لداعش على الأراضي الفرنسية لتعويم نفسها وتقليص الفارق مع ماكرون، وهي في تصريحاتها بحق خصومها، استخدمت “لهجة داعشية” غريبة عن أصول “الإتيكيت الفرنسية”، واعتبرت تحالفات الأحزاب من “أجل الجمهورية” في مواجهتها أنها عَفِنَة، وانتقدت كل الأحزاب التقليدية التي فشلت في خدمة الشعب الفرنسي وحمايته، لكن التظاهرات الطلابية التي عمَّت شوارع باريس ومدن فرنسية أخرى يوم أمس رفضاً لماكرون ولوبان على حدٍّ سواء، والتي سوف تُستكمل يوم عيد العمال بتظاهرات عمالية ضخمة، تؤشِّر الى الإرباك الحاد في المجتمع الفرنسي.
ولأن مارين لوبان تسعى لأن تجعل من فرنسا سجناً كبيراً لشعبٍ منفتح ما اعتاد التقوقع، ولأن لا برامج عمل لديها لمعالجة المشاكل الإقتصادية سوى بتوفير مساهمات فرنسا في الإتحاد الأوروبي، ووقف دعم اليورو، ووقف تدفُّق العمالة من أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولأن لا خطط لديها في مواجهة الإرهاب سوى قمع الداخل الفرنسي المُسلم وتهجير البعض منه، فإن الفرنسيين من أصول مغاربية يترصَّدون لها في ضواحي باريس لإحداث أكبر أعمال شغب هدَّدوا بها في حال فوزها، وقد تحصل مواجهات عنيفة ليس فقط مع الشرطة بل مع جماهير لوبان، وقد تنسحِب هذه المواجهات على كافة الدول الأوروبية المجاورة بين اليمينيين المتطرِّفين واللاجئين وحتى مع المواطنين المهاجرين من حملة الجنسيات الأوروبية، وكل هذه التراكمات لن تحتملها دول الجوار وسوف تسعى لدعم أيمانويل ماكرون المُهادن والمُعتدل لِسَحق مارين لوبان ووأد مشروع تفتيت أوروبا، وكل أوروبا ستُمارس القرصنة على حملة لوبان الإنتخابية من الآن وحتى السابع من أيار، وتكون الناخب الأكبر في صناديق الإقتراع الفرنسية…
المصدر: موقع المنار