د. احمد الشامي
حين قرر الغرب بوعدهم المشؤوم أن تكون فلسطين كياناً يجمع الشتات اليهودي بديلاً عن مخطط أوغندا، خاطب زعماء الصهاينة المملكة البريطانية بعبارات دالة على حجم قلقهم من هذا الخيار، ومن إمكانية استمرار كيانهم وسط بيئة اجتماعية تكنّ لهم العداء.
فجاء جواب التطمين على لسان “مارك سايكس”، ممثل بريطانيا في اجتماعات تقاسم التركة العثمانيّة، قائلاً لهم: إنّ العرب عامّة لا يشكّلون أي خطر آني أو في المستقبل على مصالحنا، فالانقسامات القبليّة والحزبيّة والإقليميّة مستحكمة فيما بينهم، ما يجعل من وحدتهم الفعليّة أمراً مستبعداً.
خمسة وسبعون عاماً مضت على تأسيس الكيان الإسرائيلي، وذلك بفضل الحماية الغربية لتلك المعادلة، بأن اجتماع الشتات اليهودي في كيان إسرائيلي مستمر إنّما يرتبط بتشتت دائم للكيانات المحيطة. وقد أوضح ذلك الزعيم الصهيوني “بن غوريون” في يومياته، إذ كتب في أكتوبر من العام 1956، بعضاً من خططهم للشرق الأوسط: الإطاحة بجمال عبد الناصر في مصر، وتقسيم الأردن بمساعدة أميركيّة بما يسمح للفلسطينيين من الاستيطان هناك، وتقليص حدود لبنان ثم العمل على تقسيمه إلى دولة لفئة من اللبنانيين تتبع لإسرائيل، وأخرى إلى سوريا( ).
يمكن القول، بأن التزام الدول الغربية بتوفير حماية دائمة لإسرائيل ودورها الوكيل عنهم في المنطقة، قد شهد في الآونة الأخيرة تنامياً كبيراً، عبر إدخالهم لبنان وسوريا والعراق في حصار وصراعات داخلية، وإشغال الخليج في حرب مع اليمن وإيران المحاصرين أيضاً، وتفكيك السودان، وحرب أهلية في ليبيا، وإرهاق مصر بلهاث السعي الدائم خلف لقمة العيش.
وحتى شهر أكتوبر من العام 2023، كادت القضية الفلسطينية أن تدخل في دائرة النسيان، حيث الزحف العربي نحو اليهود الصهاينة للتطبيع معهم، ونسخهم لآيات قرآنية بوصف اليهود أشد عداوة، ومخالفتهم للآيات بأن نبيّه إبراهيم(ع) ما كان يهودياً، وعلت الدعوات لاعتبار الأردن موطناً طبيعياً للفلسطينيين، وأن لبنان يجب أن يقسّم.
كثيرون هم الذين رجموا المقاومين في غزّة بنعوت التهوّر، والتفرّد، حين أعلنوا عملية طوفان الأقصى، التي لم تقتصر بنتائجها حتى الآن، على الإطاحة بما وفره الغرب لليهود الصهاينة من وجود مرحّب به وآمن في العديد من دول العالم العربي، بل إن هذه العملية قد وضعت الدول الغربية في موقف صعب ومحرج للغاية، فالمجتمعات التي تحيط بالكيان الإسرائيلي تبين بأنها ما عادت ساحات متفرقة، يفصل بينها انقسامات قبلية ومذهبية، وبما يناقض تلك النبوءة البريطانية التي استند إليها كضمانة لبقاء هذا الكيان.
يجري ذلك، فيما الجيش الإسرائيلي الذي بنوه ليكون عصا غليظة تؤدب المنطقة وترهبها، بات عاجزاً وهو يطلق نداءات الاغاثة من الدول الغربية لنصرته، فيما هم يواجهون تحديات عسكرية أمام روسيا في أوكرانيا، واقتصادية أمام الصين وتكتل البريكس، وأيديولوجية أمام إيران.
والذي يزيد موقف الغربيين حراجة هو أن الإدارة اليهودية الصهيونية التي رعوا تطرفها، وصارت هوية كيانهم الممتدة من البحر إلى النهر، فهذه الإدارة تعتبر الآن بأن تقديم التنازلات للفلسطينيين كمن يناقض هذه الهوية ويدفع كيانهم نحو الزوال.
لذلك، هم في مواقفهم المتشددة يجرّون الغرب إلى مواقف شديدة التعقيد في المنطقة، غير آبهين بنتائجها، وكأنهم يقولون لهذا الغرب: أنتم من زرعنا في هذه الأرض، وأنتم من شارك في صياغة سرديتنا التلمودية حول أرض المعاد، وأنتم عليكم الالتزام بتعهداتكم.
مجدداً تحاول الإدارة الغربية أن تفعّل سياساتها القائمة على مبدأ: فرّق تسد، من خلال سعيها الدؤوب لتبريد ساحات المقاومة – بالترهيب والترغيب- كمقدمة لاحتواء الطوفان الفلسطيني، ولكن المستجد الذي أدركته الإدارة الغربية بأن هذه الساحات باتت تدار بعقلية لم يعهدوها من قبل.
تخشى الإدارة الغربية على الكيان الإسرائيلي إذا ما فرضت عليه تقديم تنازلات للفلسطينيين ما يؤدي ذلك فعلاً إلى ضعف الكيان ثم زواله، كما تخشى هذه الإدارة من الكيان الإسرائيلي الاستمرار في الحرب كمن يبعث برسالة للغرب: أبقى أو نسقط جميعاً.
ويبقى الخير فيما حصل..
المصدر: بريد الموقع