في تمام الساعة السادسة صباحاً بتوقيت القدس والأقصى، بدأ الطوفان. غمرهم كسيل جارف بل أعظم. ما استفاقوا ولن يفعلوا، فالزمن لا يعود بل يمضي قدماً، ما جرى سيبقى ويمكث كثيراً وطويلاً. الزمن الآن طوع الصورايخ والبنادق واللحم الحي والحناجر المؤمنة: “اسرائيل” سقطت.
لم يكن المارد نائماً يوماً. كان يعدّ عدته لطوفانه الكبير. ظننتموه يغضب قليلاً بين الفينة والأخرى، وهذا يحدث فقط في سياق الرد على همجيتكم. هو، حسبما جعلكم تظنون، عاجز عن الإمساك بزمام المبادرة، عن الهجوم، لا مكان في حساباته لامتلاك الطلقة الأولى. لكنه فعل. أطلقها على رؤوسكم ويا لجمال ما فعل، “فاسرائيل” قد سقطت.
لنعد إلى ما حدث. لنا الحق كل الحق أن نسرد الأحداث من منطلقنا ووجهة نظرنا، أليست هذه هي المعادلة، من ينتصر يكتب التاريخ، ولقد فعلنا.
على لسان القائد محمد الضيف (قائد هيئة أركان كتائب القسام/الجناح العسكري لحركة حماس) علا النداء مع ساعات الصباح الأولى: “يا جماهير أمتنا العربية والإسلامية من المحيط إلى الخليج، يا أحرار العالم أجمعين، يا إخواننا في المقاومة الإسلامية في لبنان والعراق وسوريا واليمن هذا هو اليوم الذي تلتحم فيه مقاومتكم مع مقاومة أهلكم في فلسطين”، معلناً عن بدء عملية “طوفان الأقصى لكنس الاحتلال”، والتي تمثلت الضربة الأولى منها بإطلاق ما يفوق الخمسة الاف صاروخ في أقل من عشرين دقيقة. كان ذلك أول الغيث. تلاه المفاجأة الكبرى: هجوم ثلاثي الأبعاد براً وبحراً وجواً، فاقتحام لما يقارب الألف مقاوم لمستوطنات غلاف غزة. وهنا بدأ الطوفان الحقيقي.
لم يصدّ الأخير لا “قبة حديدية” لطالما عوّلتم عليها، ولا جدران فولاذية فوق الأرض وتحتها أنفق عليها مليارات الدولارات.
عبر المقاومون، بعدما قاموا بالتشويش على رادارات ومعدات رقابة على حدود قطاع غزة، حسبما كشفت مصادر أمنية اسرائيلية.
اجتازوا خطوط العدو “الدفاعية” بهجوم منسق على أكثر من خمسين موقعاً، إضافة إلى اقتحام أربعة عشر مستوطنة في الغلاف، استطاعوا السيطرة الكاملة على ثلاثة منها على الأقل، مع إمكانية سقوط المزيد في ظل استمرار الاشتباكات. إضافة إلى سقوط عدد من المواقع العسكرية كموقع ناحال عوز، وموقع معبر إيرز، الذي قتل فيه عدد كبير من جنود الاحتلال وأُسر آخرون.
ماذا بعد العبور؟ الكثير الكثير حقاً. يا لابداع من اسماها “الطوفان”، إنه كذلك حقيقة دون ذرة مبالغة. في حالة كهذه من الصعب على من يضربه الأخير أن يحصي خسائره البشرية والمادية وغيرها إلا بعد حين، أي عندما يهدأ السيل، وهذا أمرٌ لا يبدو بقريب، وقتها تطفو الجثث على السطح، وتبدأ عمليات البحث عن المفقودين، وفي هذه الحالة هم إما قتلى أو أسرى. أما عن عملية الترميم، ترميم الردع والهيبة وماء الوجه و”صورة الجيش الذي قُهر حتى النخاع”، فيا لهول الكارثة!
المفاجأة كانت خارج الممكن والمتوقع لدى كافة أجهزة العدو العسكرية والاستخباراتية، وهذا الفشل الأول. ولأنها كذلك، لم يكن مهيئاً لها وهنا الفشل الثاني. وعندما وقعت الكارثة، ما استطاع حصرها ولا حتى ردعها أو السيطرة عليها ولو بعد مرور ساعات طويلة وهنا الفشل الثالث. وهو في قلبها بدا على قياداته العليا ارباك وتخبط شديدين عكسها اجتماع الكابينيت الذي لم يخرج بأي نتائج واضحة، وعلى تصريحات رئيس وزرائه بنامين نتنياهو الذي دعا مواطنيه “منكوبيه“ إلى “الصبر”، معلناً أن قواته “تحاول تطهير غلاف غزة”، مضيفاً أن “إسرائيل ستعزز أمن الحدود، لردع الآخرين عن ارتكاب خطأ الانضمام إلى هذه الحرب”، وهذا الفشل الرابع.
هنا فعلياً هاجس نتنياهو الكبير، ولا ملامة في ذلك، كيف لجيشه الذي لم يستفق بعد من “كابوسه الصباحي” الذي أدّى حتى اللحظة في حصيلة غير نهائية قابلة للارتفاع، إلى مقتل أكثر من مئة إسرائيلي (منهم عدد من كبار قادة الجيش) وجرح أكثر من ألف، وأسر العشرات (السلطات الاسرائيلية غير قادرة حتى اللحظة على احصائهم) أن يخوض كابوساً آخر أكثر قتامة بأضعاف مضاعفة على الجبهة الشمالية، وهذا سيناريو مرجح بحسب مسار التطورات في الساعات والأيام المقبلة، إذ إن نداء القائد الضيف واضح لا لبس فيه.
أين يقف العدو الآن؟ هنا بيت القصيد ايضاً. للمرة الأولى لم يخرج منذ اللحظات الأولى ملوحاً بجبروته العسكري. الذهول والتخبط سادا المشهد لديه على كافة الصعد، أقصى طموحه إعادة السيطرة على ما فقده في مستوطنات الغلاف، ومنع استمرار المقاومين بالعبور (تمّ إسقاط 150 طناً من الذخائر لإنشاء منطقة عازلة بين غزة وغلافها) وحتى لو حدث ذلك، فهو وبحسب العديد من الخبراء يبقى عاجزاً إلى حد كبير على اتخاذ خيارات عسكرية كبرى تجاه القطاع (الاجتياح البري مثالاً)، في وقت يتواجد هناك عدد غير معروف من جنوده ومستوطنيه وهذا ما قد يجعله في مواجهة مع رأيه العام، الذي ينتظر محاسبة قياداته على ما حدث.
لنتحدث عنا نحن، عن فلسطين وعن من ناداهم الضيف مع ساعات النصر الأولى “أحرار العالم”. في تمام الساعة السادسة بتوقيت القدس، تحديداً في السابع من تشرين الأول/اكتوبر، أستيقظنا على حلم. وليس القصد من استخدام هذا المصطلح القول إننا لم نكن نؤمن بقدرة المقاومة على القيام بما قامت به، بل لأن في هذا المصطلح ارتباط بما هو أبعد من الواقع، لأن الأحلام تطلق العنان للمخيلة إلى أبعد الحدود لأنها في أغلب الأحيان تكون نسخة عن أقصى ما نريد وما نطمح، لأننا في تلك اللحظة التي امتلأنا بها بالخبر العظيم رأينا القدس، وشعرنا أن فلسطين حرة بالمعنى الحقيقي بعيداً عن الشعارات الرنانة والخطابات والمبالغات والخذلان العربي المثير للشفقة. أدركنا حقاً أن الكلمة العليا الآن للمقاومة فقط، وهذا واضح وضوح الشمس في كلام رئيس المكتب السياسي لحركة حماس اسماعيل هنية “اخرجوا من أرضنا وقدسنا وأقصانا ولا نريد أن نراكم فوق هذه الأرض، نحن على موعد مع النصر العظيم والفتح المبين”.
المصدر: موقع المنار