ما بين 25 ايار 2000 و21 أيار 2023، ثلاثة وعشرون عاما مرت، ومشهد استعدته من الماضي، حين علمت أننا سنكون في محضر المجاهدين، قيل لنا سترونهم يقاتلون، في وضح النهار، بكامل قوتهم وعتادهم وقدرتهم وأسلحتهم ووجوههم المخبأة قسرا خلف لثام أو بالألوان.
مشهد، حلمت أن أراه مذ ذاك الحين، حيث كنا ننتظر مرور مواكب النصر من أمام قريتنا البقاعية النائية نوعا ما، انتظرناهم بالورد والأرز لساعات، ولكنهم حين وصلوا كان مرورهم كلمح البصر، وتوقف الحلم هناك.
صباح الحادي والعشرين من أيار
ولكن الحلم عاد ليتأمل مع صباح يوم الأحد 21 أيار 2023، هذا اليوم الذي بدأ باكرا بعد أن صحوت هلعة من كابوس راودني، وهو أن القافلة ذهبت من دوني لأنني تأخرت عن الموعد.
ولكن هواجسي تبددت لحظة وصلت، الكل هنا الى جانب “كافيه 77″، المكان المحدد للتجمع. خلية نحل تعمل، منذ ساعات، تديرها الحاجة رنا الساحلي بدقة، توزع المهام والتكليفات.
تكليفي كان الباص رقم 11، لا ليس الأخير، لدينا رقم 12 أيضا، وبدأت رحلة البحث عن ركابي. دقائق معدودة، ها هو “المايسترو” يصل، مسؤول العلاقات الإعلامية في حزب الله الحاج محمد عفيف.
ألقى التحية علينا وتوجه الى الحاجة رنا بالسؤال: حاجة رنا، كيف تجري الأمور؟ أجابت: الأمور جيدة. وسريعا طلب منا اجتماعا من وقوف، نبهنا فيه الى أمور عدة، حرصا على المشاركين، وحتى تسير الرحلة على خير ما يرام.
بدأ الإعلاميون بالتوافد، الساعة الثامنة كانت ذروة الازدحام على حاسوب الحاجة رنا للتأكد من رقم الباص. لا أخطاء، الكل حاضر، صعدنا الباصات، وعلى وقع كلمة “يللا” كررها الحاج محمد ما يزيد على الألف مرة، تحركت الباصات في توقيتها المحدد، الثامنة والنصف تماما.
الطريق وأناشيد الثورة
في الطريق كنا نقلب الموسيقى إرضاء للجميع، فالباص كان مزيجا من كل الطوائف، ومن جهات إعلامية عديدة بينها رويترز ولوريون لو جور، وحزب البعث، واعلاميون فلسطينون، وأعضاء من اللقاء الإعلامي الوطني، ويساريون وعلمانيون وإعلاميون من الثنائي الوطني.. وسيدة من مؤيدي الشيخ سعد الحريري، وشاب مستقل، وهناك من لم يفصح عن هويته او لعلي لم أسال.
قافلة الباصات
تنبهت إلى بعض الباصات من أمامنا ومن خلفنا، لم يكن سوى علم لبنان مرفوعا، لا علم آخر. فاتني أن احضر علما ليرفرف من نافذة باصنا. ولكن لا ضير، فالتنوع في باصنا كان كافيا لرفع شعار الوطنية لا غير. صور قادة الأحزاب على الطرقات تحمل التنوع أيضا، فهذا هو لبنان.
كنا نمر على الحواجز نلقي التحية احتراما وترسيخا للمعادلة الذهبية الجيش والشعب والمقاومة التي حضرت ما بين تحرير أيار 2000 وانتصار تموز 2006 وحادثة العديسة في 2010 وانتصار الجرود 2017، نسلم ونكمل طريقنا. فالمنظمون لم يفُتهم أن يحصلوا على إذن تسهيل المرور من الإدارات المختصة في الدولة اللبنانية، والتي بدورها كانت قد عممت على الحواجز الأمر.
كانت قوانين السير محترمة، والسرعة لم تتجاوز التسعين في الاوتوسترادات، كنا جمعا وطنيا جميلا، لم تحضر بيننا الخلافات الحزبية مطلقا.
لحظة الوصول
كنا حشدا كبيرا، أكثر من 500 إعلامي، ترجلنا من باصاتنا، مشينا أمتارا قليلة، وصلنا الى المكان، توقفنا هنيهة بطلب من الحراس. دخل “المايسترو” قبلنا ليتأكد من شيء ما، ثم خرج ووقف على ردهة لنراه جميعا. وطلب أن لا يسجل صوته وان يتوقف التصوير حتى ندخل: “مسموح التصوير بشكل كامل ما عدا البث المباشر أثناء الفعالية، حفاظا عليكم”. واعتذر عن أي تقصير علما انه لم يحصل أصلا، هي أخلاق المقاومة فحسب.
ثم طلب منا أمرا حرك الدمع في المقل، استعار مضمونه من ابي العلاء فقال “خفف الوطْء مَا أَظن أَدِيمَ الأرض إلا من هذه الأجساد”. عبارة حملت كل الوجد والحرص على من استشهد في هذه الأرض. أومأنا برؤوسنا بأننا نعلم قدرها فلا ترتب.
الاستقبال
الاستقبال كان مهيبا، اوركسترا تعزف لحن الترحيب بحب وعطاء وشيء من الشكر على تلبيتنا، وما نحن الملبون وانما هم المتفضلون.
الحلم يتحقق ونحن نقترب شيئا فشيئا، نحن في معسكر لهم، مدرعات وراجمات وآليات عسكرية وبنادق مصوبة على من يظن بنا شرا، وحماة زينوا قمم الجبل الذي يؤطر المساحة الرملية التي ستشهد على مناورة عسكرية تكشف شيئا من جهوزية المقاومة. هنا عرمتى “كسارة العروش”، وما ابهاها، وما أعطر هواها، وما أنقى ترابها، الجبل من أمامنا وسواتر من خلفنا، وظلال فوقنا تقينا حر الشمس، وضيافة على الكراسي حتى هذه كانت حاضرة.
نعم ها هم يقفون أمامنا، وقد حرصوا علينا كحرصهم على الوطن، دافئة نظراتهم كجو تموز وآب. كل أخذ موقعه، وما هي إلا لحظات حتى دخل رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله السيد هاشم صفي الدين، جلس بيننا، تقدم المقاومون أخذوا الإذن وبدأ العرض التاريخي.
المناورة والقدرات
تأهب، الى الأمام سر، إنّا على العهد يا نصرالله، وقف الجند أمامنا والحق في اعينهم. الدراجات النارية كانت فاتحة الحدث، تحكم واقتدار، سرعة في التنفيذ وإمكانات أخرى. ثم بدأ القناصة بالتصويب على الأهداف بدقة، قسما سنعبر، قسما اننا قادمون. كنا مذهولين، وحضر العماد، فروحه وروحيته كانتا مع المقاتلين في الساح، كانتا تقصفان الهدف فيسقط من أول رصاصة، تحرر الموقع رأيناهم بأم الأعين وما كنا نراهم إلا عبر شاشات التلفزة أو من خلال الهواتف. هذه المرة مختلفة، رسائل كثيرة للأسلحة النوعية التي تم عرضها.. للقدرات البدنية التي أشعرتنا أننا أمام فيلم هوليودي كله إثارة وأحداث، لكنه صادق. تكسرت الحواجز بأيديهم، والفخارات بأرجلهم، وصعدت المسيرات التي تقدمتها حاملةُ علم الوطن لبنان، فحزب الله هو حزب لبناني اولا، وبهذا الانتماء أسقط مقولة الدويلة ضمن الدولة.
أُسر الأعداء، وتحرر الجليل، وانكسر الجدار، واطمأنينا على الوطن، فلن يتجرأ معتد بعد هذا العرض المهيب. لم أسمع أحدا يقول خفت ان يرتد الرصاص علينا، لأن من يحمل البندقية يعرف أين يصوبها. سقطت أعلام اسرائيل وتمزقت، وارتفع نداء الحسين (ع).. وصلت الرسالة.
طريق الدقائق القليلة قبل الخروج من المعسكر
انتهى العرض ببندقية الحاج عماد الخاصة قدمت للسيد هاشم صفي الدين، الذي حملها مفتخرا شاكرا ممتنا لعظيم ما خُص به. واندفعنا لنصور لقطات مع المجاهدين، وقد احترقوا من حر الشمس فيما كانوا يفيئون رؤوسنا. لقطات لطيفة كانوا يتفاعلون معنا بعد أخذها، بايماءة رأس او بسمة لم تبد على الشفاه بل بدت في الأعين، كم هم لطيفون، رغم بأسهم على العدو، تفقدت نفسي لا خدج ولا جروح فسلاحهم على العدو لا علينا، كانوا حريصين علينا أكثر من حرصهم على أنفسهم، كيف لا وهم من حموا أرضنا وعرضنا وخاضوا حروبا ضارية وقدموا التضحيات والشهداء من 1982 الى 2000 وبعدها في تموز 2006 وصدوا عنا الارهاب 2017، وما زالوا مستعدين للحرب لأجلنا، شباب بعمر الزهور آلوا على نفسهم حياة الرخاء ليتقدموا صفوف الدفاع عن كل مواطن على اختلاف دينه وانتمائه.
طريق العودة
عدنا والأمل أن نبقى، فهنا موطننا، ولكن لا بد من عودة الى مناطقنا، ففي جعبتنا رسائل كثيرة تحتاج ان تصل. نلنا أقصى ما تمنيناه برؤيتهم يقاتلون، وعدنا وفي وجداننا حكايات فصولها لم تنته بعد، سنرويها لمن لم يتسنَّ له أن يحضر، ونطبعها في دفتر الخلود ليقرأها أبناؤنا ويعرفوا أن هؤلاء هم من حفظوا الماضي والحاضر وسيحفظون المستقبل.
المصدر: بريد الموقع