لسنا معنيين بتقييم البرامج التلفزيونية، سوى من منطلقٍ واحد، أن الشاشة الصغيرة قد غزت البيوت منذ عشرات السنوات، وهي وإن فرضت نفسها ضمن التجهيزات المنزلية الضرورية، لكنها لا تستطيع الفرض في مسألة المفاضلة بين هذا التلفزيون أو ذاك، لأن الأمر هنا يرتبط بالبيئة الإجتماعية والثقافية للمُتلقِّي من جهة، وبالذوق العام من جهة أخرى.
وكما التلفزيون فرض نفسه منذ عقود جليساً للناس في بيوتهم على مدار أربعٍ وعشرين ساعة، وبات الوسيلة الأولى التي تستهدف الرأي العام، بدايةً عبر الترويج الإعلاني التجاري، ولاحقاً كمنبر ثقافي وسياسي توجيهي، فإن بروز المُنافس الواقعي للتلفزيون، كوسيلة جديدة اوجدتها الثورة التكنولوجية لأجهزة المعلوماتية والهواتف الخليوية، ومن ثم إنشاء مواقع التواصل لاحقاً، لم تنتقص من كينونة التلفزيون كوسيلة إعلامية مشتركة داخل الأسرة الواحدة، يحلُّ عليها ضيفاً محبباً أحياناً، وثقيلاً دخيلاً في أحيانٍ أخرى.
المشكلة في لبنان ليست بهذا الجهاز الذي يتسمَّر البعض أمامه أو تلك الشاشة التي تصل الليل بالنهار مضاءة بوجوهنا، بل المشكلة بنوعية وطبيعة وغرض مَن هُم خلف الجهاز والشاشة، ونحن نعترف، أن لكل بيئة شاشتها، سواء من المنظور الثقافي أو السياسي، وهنا نواجه مشكلة التباين في الأذواق والخيارات والإختلافات كي لا نقول الخلافات، ليس على نشرة أخبار أو برنامج حواري سياسي، بل على الخيار الفكري الخاص الذي يعود له الحكم على برامج هذه الشاشة أو تلك متى لامست الذوق العام.
نعم نفهم أن المحطات الخاصة أغراضها تجارية وهذا أمر مشروع، وأن وسائل التنافس مشرَّعة للتنويع في البرامج، لكن في غياب الرقابة العامة الرسمية، وانعدام الرقابة الذاتية الخاصة، بدأت بعض البرامج التي يعتبرها البعض ترفيهية تتخطى الأحمر في التجاوزات، وإلى درجة تمكننا القول أنها مرفوضة وخارجة عن سياق الأدب، لا بل باتت عدواناً موصوفاً والعدو متواجد داخل البيت.
مستويات من البرامج التي يُقال أنها ترفيهية، بعضها تدنَّى الى الحضيض، ويستطيع المشاهد الإبتعاد عن محطات لا بل إلغاء متابعتها بكبسة “ريموت كونترول”، لكن هناك محطات مُسيئة أخلاقياً وإنسانياً ووطنياً ولا يكفي معها تدبير استخدام زر الريموت كونترول في هذا المنزل أو ذاك، عندما نرى أن بعض برامجها تلامس الممنوع على مستوى الأمان الإجتماعي.
لم تعُد القضية تباينات سياسية وخطاب إعلامي مختلف، ولا الإختلاف يدخل ضمن حرية التعبير عن الرأي، عندما يغدو التعبير في بعض البرامج فلتاناً يتخطى حدود الأدب والتطاول على الآخرين سواء كانوا أشخاصاً أو مجتمعات من بيئات مختلفة، لأن الفكاهة شيء والسخرية شيء آخر، ويجب وضع حدٍّ للتفاهات بأسرع ما يمكن، لأن صناعة الفتنة ليست حصراً في البرامج السياسية، بل أيضاً في برامج المنوعات الهابطة الهابطة…
وقد يقول قائل أن نظام “الرايتنغ” هو الذي يعطي لهذه الشاشة أو تلك نتائج دقيقة في الأسبقية عن باقي الشاشات ولكن، هل أن نظام الرايتنغ هذا الذي يرصد المُتابعين، يرصد حجم المنزعجين والرافضين لهذا النوع من الإسفاف المقزز؟ والجواب كلا، وبما أن جواب “كلا” نحن على ثقة بصوابيته، من منطلق الحرص على أدبيات عامة راقية تدخل بيوتنا، وخطاب وطني يُلزمنا باحترامه ولو اختلفنا معه، فإننا ندعو إدارات محطات التلفزة الى مواجهة المرايا لو كانت لديها الجرأة الذاتية، والإحتكام الى الرأي العام عبر شركات لها وسائلها في استبيان الآراء ونشرها بشفافية، وعندها سنجد بعض الشاشات أعجز وأجبن من أن تواجه المرايا وأن تطلع على الناس بهكذا مستويات…