د. زينب الطّحان- باحثة وأستاذة جامعيّة.
عنوان الكتاب: “الدّبلوماسيّة الروحيّة والمشترك الإبراهيمي – المخطّط الاستعماري للقرن الجديد”
الكاتبة : هبة جمال الدّين محمد العزب/ مصر
مقدمة
يُحكى أنّ الرئيس المصري “أنور السّادات” كان يمضي أحيانًا إجازاته، في “سانت كاترين”، في سيناء المحرّرة بعد حرب تشرين العام 1973، والذي كان يُطلق عليه “مجمع الأديان”، وكان يأمل بتحويله إلى مركز عالمي للدّيانات السّماويّة الثلاثة لتنافس القدس المحتّلة. قد يستغرب القارئ هذه المعلومة، ولكن خلال عمليّة البحث والتقصّي، وقع بين يديّ كتاب “السّادات شميت .. حوار الأزمات”؛ للكاتب الألماني “كارل جوزيف كوشيل”، وورد فيه حديث للرئيس الحكومة الألماني “هيلموت شميت” (1918-2015) :”لقد أُعجبتُ كثيرًا بحديث السّادات الذي قال فيه إنّ الأديان السّماويّة التّوحيديّة الثلاثة قد أوحي إليها على أرض سيناء؛ وإنّنا جميعًا أبناء إبراهيم”.
“كان السّادات يأمل في لقاء سلمي كبير بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام. وكان مفترض أن يحدث هذا اللقاء، بشكل رمزي، على أرض سيناء على جبل موسى – كما يُطلق عليه بالّلغة العربيّة- إذ كان من المفترض أن يُبنى هناك معبد وكنيسة ومسجد جنبًا إلى جنب لتكون شاهدًا على التوافق والانسجام. والحقيقة أنّ السّادات قد وضع، في العام 1979، بعد مرور عامين من رحلته إلى القدس، حجر الأساس لبيوت الله هناك” . هذا مقطع من حديث طويل للرئيس الحكومة الألمانيّة “شميت”، والذي يعترف بحبّه الكبير وإعجابه الشديد بـ”أنور السّادات”؛ حين اكتشف الألماني حرص الأوّل على توحيد الأديان الثلاثة.
اليوم، يُعاد سيناريو الحديث نفسه، ففي دولة الإمارات العربيّة يبني الأمير الإماراتي معبدًا وكنيسة ومسجدًا جنبًا إلى جنب في بلده، فهل هو بذلك يحقّق حلم “السّادات” الزعيم العربي المطبّع الأوّل مع “الصهيونيّة- اليهوديّة” التي تمثّلها “دولة إسرائيل”؟ أيضًا، هذا يجعلنا نتساءل جديًا عن مدى حقيقة الخلفيّة التاريخيّة لما يسمّى “مشروع الديانات الإبراهيميّة”، وهل انبثقت تلك الفكرة منذ ذلك التّاريخ أم هو كما تقول الباحثة المصريّة الدكتورة “هبة جمال الدّين”، إنّ الفكرة انطلقت في أوائل التسعينيّات من القرن الماضي مع رجل يُدعى “نصير”، وهو سجين مصري في السّجون الأميركيّة متّهم بالإرهاب وبقتل الحاخام اليهودي “مائير كاهانا”؟.إذ دأب المدعو “نصير” على إرسال رسائل عدّة يشرح فيه فكرة مشروع “الاتحاد الإبراهيمي الفيدرالي” إلى شخصيات أميركيّة، ورسائله تلك لم تلقَ جوابًا. ولكن في العام 2000، تبنى الفكرة عمليًّا “ديك تشيني”، نائب الرسالة الأميركي الأسبق “باراك أوباما”، فأخذت الفكرة زخمًا واهتمامًا كبيرين، بدعم كبير من وزيرة الخارجيّة آنذاك “هيلاي كلنتون”، مقرونًا بمبادرات تمهيديّة على أرض الواقع السياسي والثقافي والأكاديمي، كما ظهر ذلك من زيارة الرئيس الأسبق “باراك أوباما” إلى العاصمة المصريّة “القاهرة”، في ما سمّي بثورة “الربيع العربي” .
اللافت أيضًا، تعريف الموقع الإلكتروني “ويكيبيديا” الأديان الإبراهيميّة بالآتي: “الأديان الإبراهيميّة، وتسمّى في الوطن العربي بـ”الأديان السّماويّة” أو “الشّرائع السّماويّة” التي تُعتبر بأنها الأديان التي انبثقت ممّا عُرف عند الأكاديميين بالتقاليد الإبراهيميّة نسبة للشخصيّة التوراتيّة إبراهيم (بالعبريّة: אַבְרָהָם أفراهام)”. والسؤال هل هي كذلك حقًا أم أنّها – مثل عادة هذا الموقع- لا يتبّع تقصيّ الحقائق من مصادرها الأساسيّة؟ ومنحاز إلى جهات محدّدة؛ ولماذا ركزّ في التعريف على الاسم في جذوره التّوراتيّة لا الإسلاميّة أو المسيحيّة؟
قديمًا، كان يُنظر إلى الدّين على أنّه مصدر الصّدام بين الحضارات والشّعوب، ولعلّ الحروب الصليبيّة أبرز مثالًا على هذه المقولة في ما شهدته البشريّة من صراعات دمويّة بين الشرق والغرب دامت لقرون خلت. فماذا جرى، اليوم، ليكون هو الدّين نفسه مصدرًا لتلاقي الشّعوب وبناء الحضارات؟ ليحلّ مفهوم “الدبلوماسيّة الروحيّة” في السّاحة، ويقول إنّ الدّين مدخلٌ للحلّ والتّسوية، فجاء الحديث عن السّلام الدّيني العالمي. فما الذي حدث حتّى يجري تغيير دور الدّين والنّظرة إليه؟
كتاب “الدبلوماسيّة الروحيّة”؛ مناورة بالمقلوب
تمكّنت الباحثة المصرية “جمال الدّين” من الكشف عن مشروع “المسار الإبراهيمي” وما يحمله من مشاريع للهيمنة على المنطقة بأسلوب جديد، حين أتاها باحث مغربيّ طالبًا منها المشاركة في مؤتمر وأخبرها عن اهتمام دولي متزايد، بشكل ملحوظ، بالدّراسات المستقبليّة الدّينيّة على وجه الخصوص، وأنّ الاتّحاد الأوروبي يموّل مراكز متخصصّة في “الدبلوماسيّة الروحيّة”، وهناك إدارة خاصّة داخل وزارة الخارجيّة الأميركيّة محور اهتمامها دعم هذا المشروع. وعلمت “جمال الدّين” أنّ علماء في الشريعة الإسلاميّة (رجال دين) مصريين شاركوا فى المؤتمر، والذي تناول قضايا شديدة الحساسيّة.
إزاء ذلك؛ أعتقد من الغباء أن يفوتنا السؤال الآتي: هل هذه النّظرة المغايرة عن السابق إلى الدّين هي حصرًا تتعلق بأتباع الأديان السّماويّة الثلاثة في منطقة المشرق العربي (الشرق الأوسط) أم أنّ دعاة الدبلوماسيّة الروحيّة يدعون إلى “الديانة الإبراهيميّة” لتشمل العالم كلّه؟ أرى أنّ الإجابة على هذا السّؤال كان أحد الأسباب الدافعة للباحثة المصريّة “هبة جمال الدّين” لتأليف كتابها – موضوع بحثنا- “الدبلوماسيّة الروحيّة والمشترك الإبراهيمي- المخطط الاستعماري للقرن الجديد” . فإذا اطّلعت على فهرس الكتاب، ستلاحظ صفة “العالميّة” مقترنة بالعديد من العنوانين، ولكن عندما تقرأ عن المسار التنفيذي لمشاريع “الدبلوماسيّة الروحيّة” المزعومة هذه ستجد أنّ المحيط الجغرافي الذي يحتويها هو المدار القطبي للبلدان العربيّة على وجه الخصوص، بدءًا من: فلسطين المحتلّة، العراق، لبنان، سوريا، المملكة العربيّة السّعوديّة (موطن الحج الإبراهيمي)، تونس، المغرب، الأردن، الإمارات، وصولًا إلى تركيا وإيران.
هنا، يُطرح سؤال أخر: كيف يُترجم الاتّحاد الإبراهيمي عالميًا ما دام تنفيذه مقتصرًا على الفيدراليّة؟ وما دام المشروع يٌنفّذ فيدراليًا، فأين هو من العالميّة، ولماذا لا يشمل دول أوروبا والغرب عمومًا؟ يعني، هل يُعمل على توسيع رقعة الدّين في منطقتنا العربيّة والإسلاميّة، بينما الدّعوة مستمرة على إبقائه منحسرًا في أوروبا والغرب؟
يشتغل المؤرخ والمفكّر الفرنسي “مارسيل غوشيه” على مقولة “انحسار الدّين”، منذ أكثر من 40 سنة، وهو أحد منظّري فكرة “نهاية الدّين”، واشتهر بكتابه “فك السّحر عن العالم” (1985)، والذي سلّط فيه الضوء على ما كانت عليه سلطة الدّين التّنظيميّة في المجتمعات الغربيّة، والطريقة التي اتبعتها للخروج منه. وأكّد “غوشيه”، في كتابه، على أنّ هذا العصر هو عصر خروج التّاريخ الأوروبي من الدّين المسيحي، ورأى أنّ تجربة الدّيانة اليهوديّة وطبيعة الدّيانة المسيحيّة سهّلا مسار خروجهما من السّياسة في المجتمعات الغربيّة-الأوروبيّة الحديثة؛ ذلك لأنّ اليهوديّة عملت على إعادة تعريف نفسها ديانةً لشعب الشّتات.. وترتّب عن ذلك احتماءها بالهويّة وانقطاعها عن السّياسة؛ في حين أنّ طبيعة المسيحيّة ذاتها في تصوّرها للألوهيّة ساعدت على انسحابها من السّياسة . وهذا يعيدنا إلى قرون مضت، إلى الاستعمار القديم، وخصوصًا الأوروبي، حين كانت الإمبراطورية الفرنسيّة قد بدأت تتبنى الثورة الدّاعية إلى فصل الدّين عن الحياة العامّة، واتهامه ببؤس المجتمعات وتخلّفها، كانت في الوقت نفسه، تعمل على ترسيخ هذا الدّين في المجتمعات التي تحتلّ أراضيها، وتؤسس الإرساليات التبشيريّة في مختلف البلدان والمناطق، والتي لا تزال أعمدتها قائمة حتّى اليوم في بلادنا؛ لبنان وسوريا على سبيل المثال، فهل عاد الغرب ليقوم باللّعبة ذاتها اليوم؟
حقيقةً، عندما تطلع على كتاب “جمال الدّين”، ستدرك بوضوح تام، كيف أنّ المخطط التأمري لا يزال ينطلق من العامل الدّيني، ولكن هذه المرّة ليس على قاعدة “فرق تسد”، إنّما على قاعدة مغايرة تمامًا وهي مفارقة لكّل تجارب الاستعمار القديم والحديث، ويمثّل تطلعًا إلى مستقبل أكثر استدامة وأكثر استقرارًا، يقوم على جمع الأديان السّماويّة في جهة واحدة تعمل معًا لإنجاح مشروع “التعايش المشترك” أو “العيش المشترك”، إن صحّ استخدام المصطلح هنا في هذا السّياق.
إذ بُلور، في العام 2004، مصطلح “الدّيانة الإبراهيميّة”، أكاديميًّا بعد تبني بعض الجامعات له في البحث الأكاديمي وتسويقه علميًا وإنضاج المشروع مؤسساتيًّا عبر تهيئة الأرضيّة المؤسساتيّة والمجتمعيّة والفكريّة والنفسيّة لتبنِّي الإبراهيميّة، وكذلك التطبيقات التمهيديّة بالتنفيذ الجزئي للمسار الإبراهيمي مع برامجه التنمويّة والسياحيَّة. وفي العام 2020، كان اكتمال نضج المشروع والتنفيذ المعلن والنشط له، في ظل إدارة الرئيس الأميركي السابق “دونالد ترامب”، حين بدأت موجات التّطبيع مع العدو الصهيوني لتكون أهم ملامحها وبرامجها.
بناء على هذه الرؤية قسّمت الكاتبة “جمال الدّين” كتابها أربعة فصول، تناول مفهوم الدبلوماسيّة الروحيّة نحو السّلام الدّيني العالمي وتسويقه، والقوى الفاعلة لتطبيق هذه الدبلوماسيّة والقبول بالمشترك الإبراهيمي التي بدأت بالصّوفيّة الروحيّة العالميّة، إحدى أدوات الدبلوماسيّة الروحيّة، والحديث عن آلية دبلوماسيّة المسار الثاني والتنسيق بين القيادات الروحيّة والسياسيّة التي تستخدم للتنسيق بين تلك القيادات ووسطاء السّلام في المجتمعات المحليّة، ثمّ الحديث عن مراكز ومؤسّسات أو برامج الدبلوماسيّة الروحيّة، وكذلك مناقشة البحث العلمي كونه داعمًا لتطبيق المفهوم وتطوير آلياته.
بعد هذا العرض يناقش الكتاب المشروعات المطبّقة على الأرض والمبادرات المطروحة التي تبدأ بالدعم الأميركي والدعم الأممي للفكرة، ثم ينطلق لمستوى أكثر واقعيّة للحديث عن مشروعات منفّذة ومسارات الحج الدّيني المشترك، يليه عرض لمبادرة الولايات المتّحدة الإبراهيميّة بصفتها أنموذجًا للمبادرات المطروحة في إطار المشترك الإبراهيمي والدبلوماسيّة الروحيّة. تستقرأ الكاتبة، بعد ذلك، مفهوم الدبلوماسيّة الروحيّة وحقيقة مبتغاها وأهدافها، إلى جانب استشراف المستقبل الذي يبدأ بالحديث عن الدبلوماسيّة الروحيّة وإشكاليّة النّظام العالمي الجديد، ثم المخاطر المتشابكة ضمن أدوات تلك الدبلوماسيّة والدّول الإقليميّة المتواطئة والدّول المفعول بها في إطار المفهوم الكلّي للدبلوماسيّة الروحيّة وانتشاره قاعديًا وتنفيذه عمليًا، ثم تقديم قراءة نقديّة لمبادرة الولايات المتّحدة الإبراهيميّة، يليه الحديث عن ملامح صفقة القرن، ويتبعه تحليل شبكي لتلك الدبلوماسيّة.
“الدبلوماسيّة الروحيّة” نحو السّلام الدّيني العالمي
لا يبدو أنّ هذا المفهوم بسيطٌ ببساطة معنى كلمتيّ “الدبلوماسيّة” و”الروحيّة”، إذ تبدأ رحلته، وفاق ما تُظهره الكاتبة، في المسار التاريخي للسياسة الخارجيّة الأميركيّة، حين بدا صنّاع القرار بحفر السرد القصصي للمسيحيّة داخل الخرائط الذهنيّة لعقولهم، ثم نقله إلى خرائط العالم. فهم لا يستطيعون الفصل بين معتقداتهم وإيمانهم بأرائهم العمليّة ومهامهم العلمانيّة. لذلك ما نزال نلاحظ، حتى الّلحظة الراهنة، حديث المسؤولين الأميركيين عن أهميّة الدّين في صنع السياسة الخارجيّة لبلدهم. وليس أوضح مثال على ذلك من قول “مادلين أولبرايت” وزيرة الخارجيّة في عهد الرئيس “جورج بوش”، حين اعترفت :”عالم من دون دين أمر غير مناسب، فهو الجحيم بعينه، بل إنّ على الدبلوماسيين الأميركيين التّفكير بشكل أوسع حول دور الدّين في السياسة الخارجيّة، وبالتعبيّة في اختيار الخبراء المعاونين لهم، فيجب أن يطوّروا قدرتهم للتعرّف إلى الكيفية التي تمكّن المبادئ الدّينية من المساهمة في خلق الصراع والتوقيت الذي يمكّنهم من أن يطفئ نار الحرب.. وأن يضعوا هذه المعرفة في إطار إستراتيجتهم..” .
تؤكّد الكاتبة على هذا المسار التاريخي للسياسة الخارجيّة الأميركيّة برسم جدولٍ من صفحتين، تعرض فيه نماذجَ من تفسير “مجتمع المؤرخين للسياسة الخارجيّة الأميركيّة” حول دور الدّين في ممارساتها طوال عقود، بدءًا مع الرئيس “فرانكلين روزفلت”، صاحب الخلفيّة الدّينية العميقة الممتدة من عهد الرئيس الأول للولايات المتّحدة الأميركيّة “جورج واشنطن” (1789-1797 العهد الرئاسي)، والذي كان عضوًا في الكنيسة الأنجليكانيّة والماسونيين الأحرار؛ لذلك الإيدولوجيّة- الدينيّة (السّماويّة) محفورة حفرًا في رؤية السياسات الأميركيّة الخارجيّة المتعاقبة.
يُربط ذلك في سياق أخر، إذ تشير الكاتبة إلى أنّ قضية “حوار الأديان” أنتجت بلورة مهمّة لمفهوم الدبلوماسيّة الروحيّة، فقد شهدت مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، حتى وقتنا هذا، ظهور هذه القضية كإحدى القضايا التي تندرج على أجندة السياسة الخارجيّة بصفتها مصطلحًا يشير إلى التفاعل البنّاء والإيجابي بين الناس ذوي التقاليد الدّينيّة والمعتقدات الروحيّة والإنسانيّة المختلفة، سواء كان ذلك على المستوى الفردي أو المؤسسي، حيث يتم في هذا الحوار تعزيز التّفاهم بين الأديان أو المعتقدات المختلفة لزيادة قبول الآخر” .
هذا جعل مصطلح “الدبلوماسيّة الروحيّة” شائكًا، من حيث الهدف والمفهوم؛ فتعدّدت الأراء والمفاهيم، غير أنّ ما يهمّنا هو الأسلوب المتبّع في تطبيقه، والذي منه يمكن الاستنتاج بحقيقة المقصود منه. وهذا ما استخلصته الكاتبة في أنّ الدبلوماسيّة الروحيّة هي مسار من مسارات التفاوض تستهدف حلّ النزاع أو منع حدوثه من أجل بناء سلام ديني ]روحي[ عالمي، يتمّ عبر الجمع بين القادة الرّوحيين والسّاسة داخل آليّة المسار الثاني للمفاوضات؛ باستخدام المدخل النفسي لدحض الأصوليّة في الأديان الثلاثة؛ والتباحث حول القضايا الحسّاسة محلّ النزاع بهدف التوصل إلى مشترك عبر تقارب الأديان السّماويّة الثلاثة (اليهوديّة، المسيحيّة، الإسلام) أو ما يسمّى الديانات الإبراهيميّة أو الدّين الإبراهيمي “الدّين العالمي الواحد” للقضاء على الاختلافات والوصول إلى متفق يقبله الجميع، عبر ترجمته لخدمات ملموسة يشعر بها المواطن (الحوار الخدمي) ليكون ولاؤه للدّين الإبراهيمي، ويتمّ نقله إلى الخريطة السياسيّة؛ لأنّ هذا المسار سيكون مركز صنع القرار السياسي في العالم، بهدف خلق السّلام الدّيني العالمي” .
دينيًا؛ الجمع بين “الأديان الإبراهيميّة” مغالطة عقديّة
أوّل من أطلق لفظ “الدّين الإبراهيمي” الكاهن اللاهوتي “يوكايم مارك”، وكان يقصد به الإسلام، فما لبث أن تحوّل إلى مقصوده اليهوديّة والمسيحيّة، ليُطرح على إثر ذلك أفكار: وحدة الأديان، التعايش بين الأديان، حوار الأديان، والذي أستغل بذكاء لتعبيد الطريق أمام مفهوم “الدّبلوماسيّة الروحيّة”. فقد استخدم هذا المصطلح لغايات براغماتيّة أكثر منها تاريخيّة، وهي محاولة تضليليّة لإظهار أنّ هذه الدّيانات الثلاث متقاربة فيما بينها، علمًا بأن النظرة إلى النبي إبراهيم (عليه السّلام) تختلف عليها هذه الأديان فيما بينها. ففي الوقت الذي ينظر اليهود إليه على أنه “أبو إسحاق” وجدّ يعقوب وهو إسرائيل؛ أي هو جدّ اليهود، يراه النصارى مجرد شخص مؤمن نموذجي لطاعته وإيمانه، إلا أنه ليس موحّدًا أبدً. أما الإسلام فينظر إلى دين إبراهيم، بأنه يتطابق ودين الإسلام في التّوحيد، فقد قال تعالى: ﴿مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ، وقال سبحانه: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ . إذ إنّ أساس فكرة الدّين الإبراهيمي يقوم على المشترك بين عقيدة الإسلام وغيره من العقائد- وهي فكرة باطلة؛ فالإسلام يقوم على التّوحيد والوحدانيّة، وإفراد الله تعالى بالعبادة، بينما الشّرائع المحرفة قد دخلها الشرك وخالطتها الوثنيّة، والتوحيد والشرك ضدان لا يجتمعان.
مقوّمات الدبلوماسيّة الروحيّة
بناء على ذلك التعريف المقّدم من الباحثة لمفهوم “الدّبلوماسيّة الروحيّة”، والذي على ما يبدو اتفق عليه، تتمثّل أبرز مقوّمات تلك الدبلوماسيّة بالآتي:
1. محوريّة النبي إبراهيم (ع): المشترك الرمزي بين الأديان.
2. الدّيانات الإبراهيميّة: ستتحاور لتصل إلى وضع ميثاق تكون له القدسيّة الدّينية بديلًا من المقدسات السّماويّة ويُنحّي الخلاف والفواصل (وضع كتاب مقدّس جامع).
3. آليّة دبلوماسيّة المفاوضات غير الرسميّة: “دبلوماسيّة المسار الثاني” كساحة مهيّئة لتعاون رجال الدّين والسّاسة والدّبلوماسيين ليعملوا معاً لحلّ الصّراعات المتشابكة.
4. أُسر السّلام (جماعات قاعديّة)، الحوار الخدمي، نشر الأفكار عبر تقديم خدمات تنمويّة.
5. الكيانات العلميّة الداعمة؛ كالجامعات الدّوليّة، وفي مقدّمتها “جامعة هارفرد”.
إزاء هذا، تقدّم الدبلوماسيّة الروحيّة نفسها مدخلًا لتحقيق التّنمية المستدامة، وسبق استخدامها في مطلع الألفيّة مدخلًا لتحقيق الأهداف الإنمائيّة ما بين الأعوام 2000-2015؛ وذلك عبر الحوار الخدمي القائم على مبادرات تنمويّة بين الأديان بهدف بناء مشترك واقعي يتجسّد في مشروعات تنمويّة تكافح الفقر وترفع معدلات التّنمية، وخاصّة في الدّول الناميّة. إلاّ انّ تطويرها جاء بعد العام 2015، عقب انقضاء أجل الأهداف الإنمائيّة للألفيّة، ودخول العالم إلى حقبة تنمويّة جديدة وهي أهداف التّنمية المستدامة للعام 2030، تحت رعاية الأمم المتّحدة.
في سبيل تطبيق المفهوم، تُستحدث عدد من الأدوات العالميّة التي توظّف واقعيًا؛ منها: المنظّمة الأمميّة وفي مقدّمتها منظّمة اليونيسكو، المؤتمرات الدّوليّة والقمم العالميّة، القوى العظمى والمعسكر الغربي، السياحة الدّينية المشتركة، مشروعات ريادة الأعمال، التّواصل مع الشباب، التّعاونيات النسائيّة. أمّا مؤسسات “الدبلوماسيّة الروحيّة”، فتتنوّع بين برامج أو معاهد أكاديميّة، مؤسّسات مجتمع مدني، جمعيات دوائر طلابيّة لبناء الكوادر الجديدة، وجميعها تهتم بالتأصيل النظري للفكر الجديد عبر تأويل النّصوص بالأديان الثلاثة. ومن أبرز تلك المؤسسات: المركز العالمي للدبلوماسيّة الروحيّة، منظّمة الأديان من أجل السّلام، مشروع الأرض الجديدة، رؤية إبراهيم، مركز العلاقات اليهوديّة- الإسلاميّة، اتّحاد تراث إبراهيم، إعادة اتّحاد عائلة إبراهيم. أمّا تمويل هذه المؤسسات ومشاريعها في مختلف مناطق العالم، فيتمّ من الولايات المتّحدة الأميركيّة والمملكة المتّحدة البريطانية عبر التمويل الحكومي والتّبرعات الخاصّة والمنح وتمويل الجامعات العالميّة.
أمّا أولويات التدخّل لتحقيق السّلام الدّيني العالمي، فسيتمّ تقسيم مناطق الصّراع والنّزاع في العالم وإعطاء الأولويّة إلى المناطق التي توجد فيها الأديان الإبراهيميّة. ويقوم طرح التصدّي للنزاعات العنيفة الممتدّة القائمة على أسباب دينيّة متشابكة؛ مثل قضية الصّراع العربي- الإسرائيلي، كون المنطقة الجغرافيّة مكان النّزاع هي محور العالم وكون السّلام العالمي لن يتحقّق إلاّ بسلام تلك المنطقة. وعن آليّة حلّ الصراع في الشرق الأوسط، سيتم عبر استغلال الإمكانات التي تتيحها الأديان لتكون مصدرًا للتفاهم المشترك.
لذلك، أهم ما يخفيه هذا الاتفاق هو إنشاء ما يسمّى بـ”الولايات المتّحدة الإبراهيميّة”، وهي دولة فيدراليّة موعودة، وفاق الباحثة صاحبة الكتاب، وتشمل مجمل الدّول العربيّة في الشرق الأوسط و”إسرائيل” وإيران وتركيا، وحتى المغرب العربي، أي أنها أكثر اتساعًا حتى من “حدود النيل إلى الفرات”، على أن تكون القيادة الفيدراليّة لـ”إسرائيل”، وتكسب شرعيّة ذلك من امتلاكها التكنولوجيا الضروريّة لاستخدامها في جهود تطوير الشرق الأوسط، وتساعدها في ذلك تركيا لقدرتها على استيعاب المعارضة الإسلاميّة الإخوانيّة، والتي قد تعارض القيادة الإسرائيليّة للمشروع. وتعتمد “جمال الدّين”، في دراستها هذه، على الوثائق الأميركيّة الموجودة في جامعات هارفرد وفلوريدا وبنسلفانيا ومصادر أخرى عديدة. وفي هذا السّياق، أصدرت جامعة هارفرد وثيقة بهذا الخصوص سُمّيت “مسار إبراهيم” في العام 2013، وتبعتها جامعة فلوريدا، وتناولت وثيقتها مشروع “الاتّحاد الفدرالي الإبراهيمي” في العام 2015.
القوى الفاعلة لتطبيق الدبلوماسيّة الروحيّة
مع عملية رصد القوى الفاعلة المنوطة بالانتشار القاعدي للدبلوماسيّة الروحيّة والتمهيد للقبول بالمشترك الإبراهيمي، تبيّن أنّ حركة “الصّوفيّة العالميّة” إحدى أهم تلك القوى إلى جانب مراكز البحث الإبراهيميّة. وتوضح الباحثة، أنّه رغم إرهاصات التيارات الصّوفيّة- وهي تعود إلى العام 1910- فإنّ تطويعها سياسيًا كحركة على الأرض جاء مع مطلع الألفيّة، عبر إنشائها أطرًا مؤسسيّة لتطبيق أفكارها ونشرها في العالم، وخاصّة في منطقة “الشرق الأوسط”، واستقطاب أتباع جدد وبدء الحوار مع القيادات الروحيّة الصّوفية الإسلاميّة في الدّول العربيّة في المؤتمرات الدّوليّة والمحافل العالميّة تحت إطار الأمم المتّحدة. ومن هنا، نشير إلى أنّ الرابطة الدّوليّة للصوفيّة كمنظّمة غير حكوميّة، تشارك في الاجتماعات والقمم العالميّة في مقرّ الأمم المتّحدة في جلسات حوار مع قادة دينيين لآخرين، في شأن القضايا ذات الاهتمام العالمي؛ قضايا حقوق الإنسان والعدالة والتعليم وقضايا المرأة.
تُحذّر الباحثة من أنّ خطورة التيارات الصّوفية ليس فقط في الأفكار التي يروّج لها، ولكن انتقالها من مستوى الفكر إلى الحركة، وانتشارها عبر المجتمعات المحليّة ناشرة مفهوم “دبلوماسية المواطن” والحديث عن “المواطن العالمي” الذي لا يؤمن بالحدود، والحشد والتعبئة من أجل التغيّر السلمي للتشبيك مع المجتمع المحلي. وفي السّياق، تعرض الباحثة، جدولاً مفصّلاً لأبرز الأنشطة والمؤتمرات على الساحة الدّوليّة التي استطاعت الوقوف على مفهوم الدبلوماسيّة الروحيّة والمشترك الإبراهيمي، مشيرة إلى الحاجة إلى مزيد من البحث والاستقصاء، خاصة أنّ الصّوفيّة العالميّة ترفع شعار الماسونيّة القديمة، إذ يُزعم أنّ “جورج سوروس” (George Soros) أبرز القيادات الصهيونيّة اليهوديّة في العالم هو من أبرز ممّولي “الصّوفيّة العالميّة”.
المشروعات والمبادرات المطروحة
يُمثّل مشروع “مسار إبراهيم”، ترجمة لمفهوم الدبلوماسيّة الروحيّة على الأرض، يُستثمر لبناء ذاكرة تاريخيّة جديدة تتكامل خلالها طرائق الحج المشتركة بشعار “معاً نصلّي”، يأخذ شكلاً تجميعيًا للبشر عبر مسيرات السّير المشترك، لا يرفع أي شعارات سياسيّة وإنّما دينيّة وثقافيّة وسياحيّة. والمقصود بـ”مسار إبراهيم”، هو الطريق الذي سلكه نبي الله إبراهيم وعائلته منذ 4000 عام مضت، والذي بدأ من حرّان-تركيا حيث كلّفها الرب بالخروج، وتنتقل للمرور بالعديد من المدن التي تتقاطع مع تسع دول غير تركيا، وتنتهي بمدينة هبرون (الخليل الآن) حيث دُفن، بحسب سفر التّكوين. وتمرّ رحلة المسار في سوريا والعراق ومصر والأردن ولبنان والسعودية وفلسطين والأراضي المحتلة(يطلق عليها إسرائيل) وإيران. ووقع اختيار المسارات الثلاثة على الأراضي العربيّة ومنطقة الشرق الأوسط، وتتلاقى جميعًا في الهدف لتحقيق “السّلام الدّيني العالمي” عبر بوتقة صهر تتواءم وأنصار الأديان المختلفة الإسلاميّة كالمسار الصّوفي التركي، والمسيحيّة كمسار” فرسان الهيكل”. والمُلفت، أنّ المسار الأكبر، “مسار إبراهيم”، حدوده الجغرافيّة تتشابه مع الحدود الجغرافيّة لخريطة أرض “إسرائيل الكبرى”.
يوحي الكيان المؤسسي لـ”مبادرة مسار إبراهيم” متقصّدًا، أنّه عبارة عن منظّمة غير سياسيّة وغير طائفيّة مفتوحة أمام الجميع، ترفع شعار “نحن نعيش ببساطة.. نزيل الغبار عن خطى قديمة”؛ لتؤكّد أنّ هدفها بالأساس هو إحياء التّاريخ المشترك وبناء الثقافة التاريخيّة المشتركة لأتباع الأديان الإبراهيميّة”. ففي العام 2006، نُظّمت زيارات لوفود من 10 دول حُرص خلالها على الترويج الإعلامي للزيارة. وفي الوقت عينه، بدأت عمليّة التفاوض مع حكومات الدّول لنشر المفهوم للحصول على الدعم السياسي للمسار. ومثّل العام 2007، بداية مأسسة المسار عن طريق إنشاء مؤسسة “مبادرة طريق إبراهيم” كمبادرة أهليّة تحت مظلّة جامعة هارفرد. ويقع المقر الرئيسي للمؤسسة في بولدر، في ولاية كولورادو الأميركيّة، ويديرها “ويليم أوري”، وتدير الأنشطة جامعة هارفرد التي استطاعت بناء شبكة من الجمعيات الشريكة قُبل تعاونها وفاقًا لميثاق عمل يُنظّم أسس التعاون، فلا تُقبل عضويّة أي جمعيّة إلاّ قبل التأكّد من التزامها بفكر العمل المؤسسي للمبادرة.
مسارات مخطّط لها:
بلغ طول “مسار إبراهيم” على الأرض، في العام 2014، أكثر من 1500 كيلومتر. ومن المخطّط أن يصل طول المسار إلى 5000 كيلومتر ليكون قابلاً للسفر إلى جميع الدّول التي مرّ بها النبي إبراهيم (ع)، بحسب الأديان الثلاثة، بشكل متكامل من دون استبعاد أي رواية؛ وذلك وفقًا لإصدار 2016 من جانب المبادرة. أمّا الجهات المانحة للمسار، فهي تمثّل 18 دولة، وكانت مؤسسة الأمير السعودي “الوليد بن طلال” للأعمال الإنسانيّة من أوائل المانحين.
1. الدروب المُنفّذة على الأرض: درب سيناء، درب “إسرائيل”، درب/إبراهيم الخليل فلسطين، درب الأردن، درب لبنان (https://www.lebanontrail.org-درب سوريا (جُمّد العمل به مع بدء “ثورات الربيع العربي”)، درب السعودية.
2. مسارات إبراهيم في الخليج وشبه الجزيرة العربيّة: سوريا، العراق، مسارات في دول الخليج، اليمن.
3. المسار الصّوفي: يروّج كبوتقة تشمل الديانات الثلاث والملحدين أيضًا. يتلاقى سير المسار مع الرؤية التركيّة لنطاق السيادة الذي تحلم به لاستعادة أمجاد الدّولة العثمانية، ويتقاطع مع المسارات الأخرى. ويمر مسار “فرسان الهيكل” أيضاً بالتوازي معه، لا سيما أنّه يعبر الأراضي التركيّة وصولاً إلى القدس.
4. مسار “فرسان الهيكل”: دُشّن بمبادرة أميركيّة- فرنسيّة، في العام 2006، يبدأ من فرنسا ويرفع شعار مسار الحج الدّيني المقدّس من أجل السّلام العالمي، يأخذ خمسة أشهر للوصول من فرنسا إلى القدس سيرًا على الأقدام أو عبر ركوب العجلات. وهو يمرّ بإحدى عشرة دولة وقارتين، يبلغ طوله نحو 4220 كيلومترًا يشمل عدة طرق ونقاط عبور (فرنسا، سويسرا، ألمانيا، النمسا، المجر، سلوفاكيا، صربيا، بلغاريا، تركيا، قبرص وكيان الاحتلال الإسرائيلي، حيث لا تعترف المبادرة بفلسطين المحتلّة إنّما بـ”إسرائيل” رغم أنّ المقدسات المسيحيّة هي في الجهة الشرقية من القدس).
الولايات المتّحدة الإبراهيميّة
تطرح جامعة فلوريدا الأميركيّة مشروع “الولايات المتّحدة الإبراهيميّة” عبر مركزها البحثي(EMERGY) المعني بدراسة القضايا البيئيّة والمستقبليّة ومستقبل الطاقة واستدامة الموارد الطبيعيّة المتاحة، حيث نوقش المقترح في المؤتمر السنوي للمركز في العام 2015. لم يُقدّم المشروع بوصفه مبادرة سياسيّة، بل رؤية استشرافيّة من أجل بقاء المنطقة المهدّدة بالجفاف وندرة المواردـ خلال المستقبل القريب، مع الإشارة الى أنّ منطقة الشرق الأوسط هي منطقة شديدة الجفاف في العالم. وتُقدّم الرؤية نموذجًا لهيكل سياسي عملي، ورمزًا موحّدًا يجمع الأطراف كلّها في الأرض بين نهري دجلة والفرات ونهر النيل– كما مرّ معنا- عبر إقامة اتّحاد فدرالي يجمع 18 دولة عربيّة و”إسرائيل” وتركيا وإيران معًا؛ أي ما سيُعرف باسم “الولايات المتّحدة الإبراهيميّة” أو ببساطة “الأرض المقدسة”. تقود عملية التكامل الفدرالي “إسرائيل” ثم تركيا، بحكم امتلاكهما للموارد والتكنولوجيا في ظل “جهل” عربي، هذا بحسب تصوّر جامعة فلوريدا. أمّا التمويل لإقامة الدّولة والربط الإقليمي سيكون من جانب دول الخليج بسبب “التهديد الايراني”. وتعرض الباحثة بشكل مفصّل لمشروعات الربط الجغرافي القائمة الآن مع “إسرائيل”. ويُلاحظ في هذا المقترح غياب القضية الفلسطينية، وإدراجها ضمن الطرح الإقليمي الذي سيتمّ في إطار إزالة الحواجز وإعادة تقسيم الولايات والمحافظات والوحدات التابعة.
أهم التداعيات ومخاطر المشروع (الولايات الإبراهيميّة المتّحدة)
أوضحت “جمال الدّين” التداعيات والمخاطر، مشيرةً في ذلك إلى ما يلي:
1. هذا المشروع الفكري- الجغرافي ينطوي على عدد من التداعيات والمخاطر المهمّة، أولها: أن انتشار فكرة “الإبراهيميّة” واتساع عدد المؤمنين بها، يُحوّل دور العبادة بالأديان الثلاثة إلى مراكز للدبلوماسيّة الروحيّة ثم ستفقد قدسيتها. وكذلك إعادة قراءة النص الدّيني واستخدامه لتفسير النهج السياسي. ومثال ذلك ما تقوم به “جمعيّة المؤرخين للسياسة الخارجيّة الأميركيّة التي تعيد قراءة الأحداث التّاريخيّة الأميركيّة من منظور ديني يسوّغ القرارات السياسيّة كلّها، حيث ستتخذ هذه القرارات بصفتها تعبّر عن أمر إلهي مقدّس. ولا يقتصر الأمر هنا على تسويغ الماضي بمجازره ومآسيه، ولكنّها ستمثل صكوكًا لفعل أي شيء في المستقبل.
2. تداعيات انتشار “الإبراهيميّة” على القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين، ستكون كارثيّة، من جهة حذف كلمة فلسطين من الوجدان الإنساني كلّه. وهذا ما لاحظناه، مع منظّمة الأونروا فور وصول الرئيس “دونالد ترامب” إلى السّلطة، بحذف عبارة “القدس عاصمة فلسطين” من المقرّرات الدّراسيّة للصف الأوّل إلى الرابع الابتدائي بمدارسها لتحلّ محلّها عبارة “القدس المدينة الإبراهيميّة”، في محاولة منها لتغيير هويّة الأطفال الفلسطينيين، في مرحلة التشكيل، ليكونوا نواة التطبيق للمخطط المستقبلي. كذلك، من أبرز تجليات “الحوار الخدمي” تطهير غور الأردن من الألغام كونه أحد مقاصد السّياحة الدّينية الإبراهيميّة المشتركة.
3. الأخطر من ذلك كلّه، الحديث عن “مفهوم أصحاب الحق الأصلي”، من دون تحديد هويتهم، يفتح المجال أمام إصدار خرائط عن ما يسمّى “وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة: لتتدعي حقوقًا تاريخيّة لليهود في الدّول العربيّة، خاصة في شبه الجزيرة العربيّة. ولا ننسى في هذا السياق، تلك المحاولة الفاضحة لعلماء آثار يهود حاولوا زرع قطعة أثريّة فيها علامة للدّين اليهودي في أحد الأمكنة السّياحيّة الأردنيّة، للادعاء لاحقًا بوجود تاريخي لليهود في هذه الأرض.
تدرك الصهيونيّة العالميّة حقيقة واقعيّة متجّذرة، في المشرق العربي عمومًا، أن وجود الكيان الإسرائيلي لا يمكنه الاستمرار في ظلّ ثقافة ترفضه وتراه عدوًا، وبقاؤه مرهون بتغيير هذه الثقافة عميقًا. وهي تعلم علم اليقين أن أصول هذه الثقافة ومنابعها تأتي بالدرجة الأولى من الإيدولوجية الدينيّة والموروث الثقافي العقائدي؛ لذلك يتموضع مشروع “الديانة الإبراهيميّة” في قلب منطقتنا أولًا، وبشكل أساسي، ومساره كلّه يدور في الدوائر المكانيّة – الجغرافيّة ذات العمق الدّيني المقدّس، وما تواجد بعض الأنشطة في بعض بلدان العالم حاليًا إلا تمويه مقصود ومدروس لإقناع البشريّة أنّه مشروع يطال العالميّة، بينما في الحقيقة العمليّة الصارخة هي تبغي تغيير الواقع الثقافي الشعبوي في منطقتنا حصرًا ليس إلّا.
إذ إنّ المؤامرة الصّهيونيّة – الأميركيّة الجديدة تسعى إلى استعادة ما يدّعونه “أرض بني إسرائيل” و”أرض الميعاد”. ففي كتاب “العودة إلى مكة”، لضابط الاستخبارات الإسرائيلي السابق “آفي ليبكن”، أشار إلى ما أسماه الشعوب الأصلية في أرض الجزيرة العربيّة، ويجب إعادتها إلى بني إسرائيل، بحسب ما ورد في العهد القديم، لذلك فالولايات المتّحدة الإبراهيميّة لا تعترف بالحدود الحالية بين الدّول، فهي تسعى إلى ضمّ تركيا وايران وفلسطين المحتلّة في اتحاد فدرالي بزعامة صهيونية – تركية في المرحلة الأولى، كونهما دولتين تمتلكان التقدّم العلّمي والتّكنولوجي والصّناعي ولديهما قدرة إدارة الموارد البشريّة والثروات العربيّة المهدورة. كما أنها لا تعترف بالفكرة القوميّة والوطنيّة، بل هي تدعو إلى إنشاء تحالف حول الفكرة الإبراهيميّة، لذلك هي تسعى إلى إلغاء الأماكن المقدسة أو المدينة المقدّسة للمسلمين .
المصدر: بريد الموقع