ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطاباً مطوّلاً في الكرملين قبل أيام، حيث أقيم احتفال رسمي لتوقيع الاتفاقيات الخاصة لانضمام جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، ومنطقتي زاباروجيا وخيرسون، إلى دولة روسيا الاتحادية، وبحضور قادة المناطق الأربع، وذلك فور ظهور نتائج الاستفتاءات الشعبية لهذه المناطق.
خطاب بوتين حمل انتقادات لاذعة للنخب الغربية ولممارساتها الاستبدادية والاستعمارية القديمة والجديدة، لافتاً إلى تحكمها بمصير الدول والشعوب ونهبها لثروات دول العالم تاريخياً وحاضراً، وأن ما يجري اليوم هو نهاية هذا العالَم أحادي القطب إلى غير رجعة، مشيراً إلى أهمية تعاون شعوب العالم للوقوف بوجه هذه الهيمنة، فيما وصف ما يجري بحركة التحرّر المناهضة للاستعمار ضد الهيمنة، مضيفاً «إن القوة هي التي ستحدد الواقع الجيوسياسي في المستقبل».
خطاب الرئيس الروسي تضمن جردة حساب تاريخية ملخّصاً رؤيته للصراع المصيري مع الغرب، محدداً موقع روسيا التاريخية حاضراً ومستقبلاً في العالم، انطلاقاً من الحرب التي تخوضها اليوم في أوكرانيا.
كلام بوتين حمل في طياته نية روسية واضحة في الانفصال عن الغرب، والتوق الروسي في بناء نظام عالمي جديد ومتعدد بعيداً عن الهيمنة الغربية السياسية والاقتصادية والثقافية، متوجهاً بكلام مباشر للغرب قائلاً: «انتبهوا لكلامي جيداً (…) أن روسيا تدرك مسؤوليتها أمام المجتمع الدولي، وستقوم بما يلزم لتعيد الغرب إلى رشده»، في إشارة واضحة للانفصال عن الغرب الفاقد لرشده مضيفاً: «إن الغرب يريد تصنيف روسيا عدوة، وأوروبا لا تريد حلاً عملياً لأزمة الطاقة، وكل ما يثار ضدنا هو ادعاءات كاذبة، والأكاذيب لن تدفئ أوروبا في الشتاء»، وهنا نستطيع القول إن بوتين دحض زيف ادعاءات الغرب وأميركا بمسؤولية روسيا قطع إمدادات الغاز عن أوروبا أو بتفجير خطي غاز «السيل الشمالي 1 و2»، وخصوصاً بعد اتضاح نتائج عملية التفجير التي حصلت في المناطق الواقعة تحت سيطرة ومراقبة دول أوروبية.
بوتين أضاف: «بعد الحرب العالمية الثانية تمكنت الولايات المتحدة من فرض سلطة الدولار على العالم، بهدف السيطرة على الدورة المالية العالمية وللاستحواذ على كل شيء بوقاحة وابتزاز»، وهنا تأتي أهمية القرار الروسي ببيع الغاز والتبادل التجاري بالروبل الروسي، وهذا ما أدى إلى انتكاسة كبيرة لحقت بسلطة الدولار الأميركي ما أصاب أميركا والغرب بالجنون.
أما في ما يتعلق بحرب الثقافات فلفت بوتين إلى إظهار البون الشاسع بين ثقافة المجتمع الروسي وثقافة المجتمعات الغربية حيث قال: «إن الغرب تخلى عن قيم الأسرة، أما المجتمع الروسي فلن يتقبل التوجهات الغربية والأنماط السلوكية الشاذة، فنحن في روسيا لا يوجد عندنا إلا أم وأب فقط، أما بقية الأفكار الغربية الأخرى فهي أفكار شيطانية ولن تجد طريقها إلينا، مؤكداً أنه لن يكون لدينا جنس ثالث»، وختم هذه الفقرة قائلاً: «كلّا للمثليين، ونعم للأخلاق وللدين وللعائلة ومن حق أطفالنا ومستقبلنا أن نحارب من أجلهم وأن نحافظ على قيمنا وثقافتنا».
بوتين شدد على عامل القوة لكونها اللغة التي يفهما الغرب، معرباً وبكل صراحة بأن القوة هي التي ستحدد المستقبل السياسي في العالم، وأضاف إن العالم دخل فترة تحولات ثورية، والمستقبل هو للقتال من أجل شعبنا ومن أجل روسيا التاريخية العظيمة، وإن خيار شعوب لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزاباروجيا هو انتصار الانتماء لثقافة الوطن الروسي.
الرئيس الأميركي جو بايدن لم يتأخر بالرد على خطاب الرئيس الروسي حيث قال: «لا يمكن لبوتين الاستيلاء على أراضي بلد مجاور والنجاة بفعلته»، وهنا يبرز سؤال عن تاريخ الولايات المتحدة إذ كيف لأميركا الاستيلاء على مقاطعتي تكساس وكاليفورنيا المكسيكيتين وضمهما بالقوة إلى باقي الولايات الأميركية؟ ثم كيف يمكن لأميركا السطو على ثروات العراق وسورية النفطية والنجاة بفعلتها، وبأي شريعة سكتت أميركا عن احتلال واستيلاء الكيان الصهيوني لفلسطين والجولان السوري ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا وثروات لبنان والنجاة بفعلته؟ أليس ما أقدمت عليه أميركا والكيان الصهيوني تزويراً للتاريخ وازدواجية في المعايير؟
رئيسة وزراء بريطانيا ليز تراس علقت بالقول: لا يمكن السماح لبوتين بتغيير الحدود الدولية باستخدام القوة الغاشمة، وهنا أيضاً يبرز سؤال عن التاريخ: كيف سمحت بريطانيا بتغيير حدود اسكتلندا وايرلندا وضمهما إلى بريطانيا، وقامت بتغيير حدود القارة الهندية، وبغزو جزر الفوكلاند الأرجنتينية، وكيف سمحت بتغيير حدود الاتحاد السوفييتي، وحدود يوغوسلافيا وجورجيا وأوروبا الشرقية، وحدود السودان وليبيا واليمن والعراق؟ وكيف سُمح لسايكس وبيكو بتغيير حدود سورية الكبرى، والتغاضي عن سلب لواء إسكندرون السوري وضمه إلى تركيا بالقوة الغاشمة؟
بوتين ورغم انتقاده لسياسات الغرب إلا أنه أعلن عن استعداد روسيا للتفاوض مع أوكرانيا حيث قال: أدعو سلطات كييڤ العودة إلى طاولة المفاوضات لكن ليس على حساب ما تحقق بضم المقاطعات الأربع إلى روسيا.
إن مبادرة الرئيس الروسي نحو أوكرانيا تعني إعلان هزيمة الغرب في أوكرانيا بيد إن الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، وبدفع من أميركا والدول الغربية، رفض دعوة الرئيس الروسي للتفاوض ما دام بوتين رئيساً لروسيا، في محاولة لنقل المعركة ضد شخص الرئيس بوتين.
الأسلوب الأميركي البريطاني الغربي بتحويل الصراع نحو شخص الرئيس بوتين هو الأسلوب نفسه الذي اتبع في سورية سابقاً، لكن سورية العقائدية بجيشها وشعبها وبقيادة رئيسها بشار الأسد تمكنت من إفشال المؤامرة الكونية عليها ونجحت في كتابة التاريخ الجديد.
دول الاتحاد الأوروبي رضخت للهيمنة الأميركية ورفضت الاعتراف بالهزيمة في أوكرانيا واستمرت بالإغداق على أوكرانيا بالمال والسلاح رغم الخسائر الفادحة التي أصابت اقتصادهم وألحقت الضرر بشعوبهم وبمستقبل الاتحاد الأوروبي وذلك بهدف إطالة أمد الحرب ضد روسيا لاستنزافها ولتهديد نظام الرئيس بوتين.
بناء على ما تقدم نستنتج بأن الأيام والأشهر القادمة ستكون حامية الوطيس، فروسيا مصممة على المحافظة على مكتسباتها التي تحققت في الميدان رغم بعض الانتكاسات والخسائر، فيما الولايات المتحدة الأميركية قررت التضحية بأوروبا وبوحدتها وبمصلحة شعوبها ولو تحول الاتحاد الأوروبي إلى أنقاض.
بوتين شدد على حدوث أخطاء تاريخية حين قال إن آخر زعماء الاتحاد السوفييتي ارتكب خطأ تاريخياً ولم يدرك خطر تفكك الاتحاد، فالغرب سعى إلى تفكيك الاتحاد السوفييتي بهدف الاستعمار وإن روسيا الاتحادية لن تُستعمر.
إن خطاب بوتين هو إعلان صريح عن فاتحة ثورية حديثة لتصحيح مسار التاريخ ليس بالنسبة لروسيا التاريخية، بل لدول ولشعوب العالم كفرصة تاريخية لاستعادة حقوق الشعوب وتحرير ثروات الدول من السطوة الأميركية الغربية، والشروع في بناء نظام عالمي جديد متعدد وأكثر عدلاً بالشراكة مع الصين ودول «البريكس» ودول «منظمة شنغهاي».