منذ إعلان واشنطن عن عملية “الرّمح الجنوبي” في إحدى دول أميركا اللاتينية، بدا واضحاً أنّ المسألة تتجاوز إطار الأمن الداخلي أو مكافحة الجريمة المنظمة. فالتوقيت، والخطاب المرافق، والبيئة الجيوسياسية المحيطة بالعملية، كلها مؤشرات تعيدنا إلى منطق “إعادة رسم الحدود الخفية للنفوذ الأميركي” في لحظة تتفكك فيها مرتكزات النظام الدولي التقليدي، وتتصاعد فيها القوى المنافسة التي تنازع واشنطن على ساحاتها الخلفية.
الأسباب المباشرة للعملية
تقدم الإدارة الأميركية أسباباً ظاهرية للعملية، مرتبطة بوقف تمدد شبكات المخدرات، وتعقّب مليشيات عابرة للحدود، وحماية الاستثمارات الحيوية. هذا النوع من الخطابات يتكرر منذ عقود في أي تدخل أميركي في أميركا الوسطى والجنوبية، من هندوراس إلى بنما، حيث تم استعمال “مكافحة المخدرات” أو “الدفاع عن الحكومة الشرعية” كغطاء لتوسيع السيطرة.
لكن القراءة الموضوعية تشير إلى أن “الرّمح الجنوبي” يأتي في ظل ثلاث بيئات ضاغطة على واشنطن:
1. تنامي النفوذ الصيني في المنطقة
الصين أصبحت الشريك التجاري الأول لـ12 دولة في أميركا الجنوبية، متقدمة على الولايات المتحدة. مشاريع الحزام والطريق، ومرافئ البنية التحتية، والدعم المالي بسقوف مرتفعة، كلها تشكّل تهديداً للهيمنة الاقتصادية الأميركية التاريخية.
2. الوجود الروسي الناعم
موسكو طوّرت شبكة علاقات عسكرية وتقنية مع دول عدة في القارة، ما يشكّل—من وجهة النظر الأميركية—امتداداً لبعيد المدى الاستراتيجي الروسي الذي تبحث الولايات المتحدة عن تطويقه منذ الحرب الباردة.
3. تصاعد نزعات الاستقلال السياسي في أكثر من عاصمة
تجربة لولا في البرازيل، والشعبوية اليسارية في بوليفيا، وعودة النزعات القومية في الأرجنتين، كلّها تحدّ من قدرة واشنطن على فرض إرادتها من خلال الأدوات التقليدية: العقوبات، التمويل، ضغوط صندوق النقد، أو التأثير الأمني.
الأبعاد العميقة للعملية
“الرّمح الجنوبي” ليس مجرد تحرك عسكري ظرفي، بل محاولة لإعادة تثبيت معادلة الردع التي اهتزت منذ عام 2022. فالولايات المتحدة تنظر إلى أميركا اللاتينية باعتبارها “الخاصرة الجنوبية” التي لا يجوز السماح باختراقها، تماماً كما تنظر روسيا إلى أوكرانيا باعتبارها “الخاصرة الغربية” التي لا يمكن التخلي عنها.
المقارنة هنا ليست سياسية فقط، بل جيواستراتيجية:
كما دفع الناتو حدود نفوذه نحو تخوم موسكو عبر أوكرانيا، تخشى واشنطن من تمدّد نفوذ بكين وموسكو نحو تخومها الجنوبية. أي إن العملية تعكس منطق “الحزام الأمني” الذي يحرّك القوى الكبرى في لحظات التوازنات المتحركة.
تاريخياً، شكّلت أميركا اللاتينية الركيزة التي انطلقت منها عقيدة مونرو في القرن التاسع عشر: “أميركا للأميركيين”. وفي الحرب الباردة، شهدت القارة سلسلة من الانقلابات المدعومة أميركياً (تشيلي 1973 مثالاً)، منعاً لأي اختراق سوفياتي. واليوم، مع التحول في النظام الدولي، تعود واشنطن إلى الأدوات ذاتها، ولكن في مشهد أكثر تعقيداً.
ما وراء الخبر: صراع رسائل لا صراع حدود
ما يجري ليس “عملية أمنية”، بل رسالة دولية متعدّدة الاتجاهات:
– رسالة إلى الصين:
إن القارة ليست مفتوحة للاستثمارات دون ضوابط. فإذا تحولت البنى التحتية إلى منصات نفوذ، أو أبواب لإعادة تموضع بكين، فإن الرد الأميركي سيظهر فجأة وبقوة—ليس اقتصادياً فقط، بل أمنياً أيضاً.
– رسالة إلى روسيا:
إذا كانت أوكرانيا خاصرة موسكو التي تعتبرها خطاً أحمر، فإن أميركا اللاتينية هي الخط الأحمر الأميركي. وتماماً كما ردّت واشنطن عبر الناتو على التمدد الروسي غرباً، فإنها ترسل اليوم إشارة بأن أي محاولات روسية لتوسيع موطئ قدم جنوبي ستواجه صداً مباشراً.
– رسالة إلى الحلفاء الأوروبيين:
بأن الولايات المتحدة قادرة على إدارة ساحات متعددة في وقت واحد—من البحر الأحمر إلى شرق المتوسط إلى أوكرانيا—وأنها لم تفقد بعد قدرتها على فرض إيقاع عالمي.
– رسالة داخلية للرأي العام الأميركي مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية:
مفادها أن الإدارة الحالية ما زالت “تحمي الحدود البعيدة” وتُظهر الحزم global toughness.
الأهداف الاستراتيجية
يمكن تلخيص الهدف الأميركي بثلاثة مستويات:
أولاً: إعادة ترسيم المجال الحيوي الأميركي
واشنطن تريد تثبيت واقع جديد مفاده أن أي تحركات استراتيجية لخصومها في القارة ستواجه بإجراءات صلبة، وليس فقط ضغوط دبلوماسية.
ثانياً: استباق التمدد الصيني – الروسي المشترك
في اللحظة التي تتقارب فيها موسكو وبكين وتنسج شبكات في الطاقة والنقل والمال، تسعى واشنطن إلى منع هذا التقارب من الوصول إلى “ساحتها الخلفية”.
ثالثاً: استعادة صورة القائد العالمي
بعد اهتزاز صورة الردع الأميركي في أفغانستان وأوكرانيا، تسعى واشنطن إلى إرسال مشهد جديد: القدرة على المبادرة خارج حدود الأزمات التقليدية.
البعد الجيوسياسي: عندما تتقاطع أوكرانيا مع أميركا اللاتينية
الربط بين العمليتين—الناتو في أوكرانيا و“الرّمح الجنوبي” في اللاتينية—ليس مبالغة، بل يعكس منطق الصراع بين القوى العظمى.
في أوكرانيا، حاولت الولايات المتحدة توسيع نطاق الناتو، فاعتبرت موسكو أن هذا تهديداً مباشراً لعمقها القومي واندلعت الحرب.
واليوم، ترى واشنطن في التمدد الصيني–الروسي جنوباً تهديداً لعمقها القومي، فتحركت عسكرياً وسياسياً لمنع قيام “خاصرة جنوبية معادية”.
بهذا المعنى، تتحول العملية إلى جزء من “الجغرافيا الجديدة للصراع العالمي”، حيث لا تعود المعارك محصورة في الحدود، بل في مناطق النفوذ، والممرات الاقتصادية، والفضاءات التي يمكن أن تتحول إلى منصات ضغط متبادل.
في المحصلة
“الرّمح الجنوبي” ليس مجرد عملية أميركية في قارة اعتادت التدخلات الأميركية منذ عقود. إنه فصل جديد من الصراع على النظام الدولي المقبل، حيث تسعى واشنطن إلى شرعنة إعادة بسط نفوذها، تماماً كما يحاول خصومها شرعنة نفوذهم في ساحاتهم.
وإذا كان الناتو قد حاول تثبيت معادلته في الخاصرة الروسية عبر أوكرانيا، ما أدى بروسيا لأن تطلق عملية عسكرية دفاعاً عن أمنها القومي، فإن واشنطن تحاول اليوم تثبيت معادلة مشابهة في خاصرتها الجنوبية، بما يعيد رسم خرائط القوة قبل أن يستقر شكل النظام العالمي الجديد.
الياس المر: باحث في العلاقات الدولية
المصدر: بريد الموقع
