في رحاب المرقد الذي يحتضن سرّ المقاومة، مرقد سيّد شهداء الأمّة السيّد حسن نصرالله (رضوان الله عليه)، أزهرت الكلمة قصيدةً، ونما الشعر من وهج الدم الطاهر مهرجاناً سُمّي بـ “مهرجان الأمناء الشعري الأول”.
بالأمس إلتقى الثرى بالسماء، حيث صدح شعراء من أطراف الوطن العربي ليجعلوا من القوافي جسراً للعهد والوفاء، في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد القائدين الكبيرين السيّد حسن نصرالله والسيّد هاشم صفي الدين (رضوان الله عليهما).
وأضاء الضريح بنبض الكلمة، حيث ادار الإعلامي روني ألفا الأمسية الأولى، وقدمت الروائية فاتن المرّ كلمة فتحت فيها أبواب المعنى وقالت:” تكلم الجرح حين اختنق صوتنا، نادانا من عمق الليالي كالخاتمات، فيما كنا نتوقع أن نقع في حزننا، نأبى أن نخرج منه، نخشى أن نقضي أثر الموج، أن نفتقد الخراب، قال أن الوقت قد حان، قال أن الحزن سيرافقنا ما حيينا ولكنه لن يقعدنا، قال إن علينا أن نصنع نورنا ثم نرسم مسارنا في أثره”، قبل أن تتهادى قصائد الشعراء أحمد بخيت (مصر)، وعلوي الغريفي (البحرين)، وصلاح أبو لاوي (فلسطين)، وفاتحة معمّري (الجزائر)، ونجاح العرسان (العراق)، وإيهاب حمادة (لبنان).
وبكلمات تتحدى السكون، وترسم الشهيد على صفحات الليل، حيث تتقاطع الشجاعة مع الحنين، وتولد الحقيقة من قلب الغياب قال الشاعر العراقي نجاح العرسان :

وانا طريدك في وجوه الماكثين
وفي بلاد في البلاد تهاجر
وانا بريدك في عيون الناعيات
وهن في وضح الصلاة حواسر
وانا شهيدك يا شهيد العالمين
وخلّف ظهري خنجر وعشائر
واراك مبتسما تغامر في نجاتك
والنجاة على يديك تغامر
يا آخر اللاتين وحدك كلهم
في الكاس نصف فارغ متآمر
سيقول عنك القاصرون عن الشجاعة
إن فهمك للشجاعة قاصر
ويقول عنك المذنبون بغير ذنب
خلفه صلى السلام الكافر
اما لديّ ومن لديه من الحقيقة
شعرة انت الشهيد الطاهر
قلبي على ايلول في العشر الأواخر
والليالي سبعهن أواخر
وبقصائد شاهدة على الشهادة والحياة المعلقة بين الدمعة والذكرى قال الشاعر المصري أحمد بخيت.

يحكي عن المســـجدِ الأقصى وقُبَّتــِـهِ
عن الحنيـــنِ الذي عِشـــنا لِنـــوقده
عن دمـــعةِ الأمِّ تهتـــزُ الســـماءُ لها
تشــــــكو إلى الله ما تــَـلقى لِتُشـــْـــهِدَه:
أطعمتـــه خبـــــزَ قلبـــي، كي يوسِّـــــدَنِي
قبــــــري ، وهــــان عليــــهم أنْ أوسـِّــــدَهُ
واحـــــر قـلـبـاهُ ، قـــالتْ ، وهي عاجـــزةٌ
ونحــــن أعجـــــزُ مِنــــْها أنْ نـبــــرِّدَهُ
فقـــلْ لكـــلِّ شـــــــــهيدٍ أنـتَ ســـــــــابقُنا
تـحيــــا على العهـــدِ ، نحيـــا كيْ نـــؤكّدَهُ
مـــازالَ جـــرحُكَ مســـكًا دافـــئًـــا رطـــبًا
يــــــخـــفُّ ألـــفُ مـــلاكٍ كيْ يـــضـــمـّـدَهُ
لــمْ تـــغـــمدِ السّــيفَ ظـلَّ السّـيفُ مُنصَلتًــا
لعـلَّ جبريــــــلَ من يدنــــــو ليـــــــــغـمدَهُ
الشاعرة القادمة من الجزائر فاتحة معمري استحضرت لبنان الشهيد الحيّ في الضمائر، حيث يمتزج صوت السيد نصر الله بالذاكرة، فيغدو الهتاف مرآةً لا تكسرها الأكاذيب.

لبنانَ كنتَ ولم تكنْ ما كانوا
ماتتْ عِداكَ ولم تَمُتْ لبنانُ
مازلتَ حيّا في ضمائر فِتْيةٍ
صَدقوا وأنتَ لصِدقهمْ عنوانُ
يا صوتَ نصرِ الله ما زلتَ الهتافَ
الهاشميَّ وكُلنا آذانُ
ما زلتَ مرآةَ الحقيقةِ حين
زيّفَ كاذبٌ ما تعكسُ الأوطانُ
ما زلتَ ضحكتكَ التي فعلت بنا
من سحرها ما تفعلُ الأحزانُ
ما زلتَ مثلكَ لم يغيّرْ شانئٌ من
زينِ شأْنِكُمُ إذا ما شانوا
يا أيها الإنسانُ في زمنٍ يمثلُ
حربَهُ وسلامَهُ الشيطانُ
الشاعر السيد علوي الغريفي من البحرين حوّل العباءة إلى منفى يحتضن الأمان، والضحكة إلى بلسمٍ للجراح، حتى يغدو لبنان زمردةً في يد من علّم الأرض فقه الكرامة والنهوض.

تهجّدتُ في معناكَ يا سيد الندى
بغيركَ إنّي لا أجيدُ التهجّدا
وباسمكَ بلّلتُ القوافي فأينعت
وألقت على الصحراءِ نصّاً مورَّدا
وأرخصتُ عينَ الأبجديةِ أن ترى
بعمّتكَ السوداءَ كُحلاً ومِرودا
عباءتُكَ المنفى.. متى ما تحرّكت
تطمئنُ في الكونِ الأمانَ المُشرّدا
وشيبتُكَ الغيمُ الذي فوق جدبِنا
يُهاطِلُ إصراراً.. إذا ما تلبّدا
أيا مانحَ الأنهارِ .. معنىً وفكرةً
ويا مُلبسَ الأقمارَ من ضوئهِ رِدا
ويا ضحكةً.. لم يطرقِ الجرحُ بابَها
بيمناهُ إلا عاد منها مُضَمَّدا
ويا وجه لُبنانَ الذي قد تشكّلت
تضاريسهُ في الأرضِ عزّاً وسؤددا
نفضت غُبارَ اليأسِ من ثوب “أرزِه”
فأضحى بعين الثائرينَ زُمرُّدا
وما استوردت لبنانُ مجدَ ربيعها
سوى حينما ألفتكَ حقلاً مُورِدا
تحكّمتَ في رسم الجهاتِ بإصبِعٍ
وأرخيتَ كفّاً للجنوبِ ليصعدا
وعلمّتنا فقه الكرامة أعصراً
بوقتٍ بهِ احتجنا فقيها مُقلدا
وفي اللغة اخترناك للنحو مرجعاً
لأنك من قد صيّر الجمعَ مُفردا
لَكم ضلّت الأعرابُ قبلكَ دربَها
فكنتَ لها نجماً بلُقياهُ يُهتدى
وحين الرسالات اشتهتكَ لبعثةٍ
توزّعتَ في الدنيا “نبيّاً محمّدا”
تسلّلت فقّاراً على خيبرٍ لذا
بوجهك ألفينا “عليّاً” مجدّدا
أضئ لي جبيناً من محيّاكَ إنّني
أتيتكَ مغشيَّ الحقيقةِ أرمدا
وكن لي “سُليماناً” على عرشِ أضلعي
سآتيكَ من أقصى المسافاتِ هُدهدا
الشاعر وجيه عباس من العراق القى شعرا استنطق فيه الموت ليجعله ولادةً أخرى، واعاد الشهيد قيامةً كبرى، حيث يختصر في حضوره اليقين، ويغدو وحيداً بحجم أمةٍ عَقُمت.

الموتُ أولدكَ الحياةَ جديدا
من عارِها ألا تكون شهيدا
من عارها الا تكونَ قيامةً
كبرى، ونارُك أن تريدَ مزيدا
الموتُ يستفتيك فيها واحداً
ليقولَ فيك حروفَه تقليدا
الآن ينسلُّ الوجودُ أصابعاً
ويراك تختصرُ اليقينَ وجودا
ياحاءُ ياسينٌ وياذو النون يونسُهُ
الثرى، واليمُّ كان صعيدا
قد حدَّثتْكَ الأرضُ في أخبارِها
وحيَ السماء وأبرقتكَ رعودا
ها أنت تملأ خافقيها فطرةً
ويراك موتُك دونَها مولودا
قد كنت وحدَك أمةً، ولطالما
عَقُمتْ بها أممٌ، وكنتَ وحيدا
لقد جاءت هذه الأصوات المبدعة، بدعوة من المنتديات الثقافية اللبنانية واتحاد الكتّاب، لتعلن أن الشعر ما زال سلاحاً يوازي البندقية، وأن الكلمة لا تقلّ في ميدان المواجهة عن الرصاصة. فالحضور العربي ليس حضوراً أدبياً وحسب، بل موقف تضامن، ورحلة عهدٍ جديد مع الشهداء، وردّ حيّ على محاولات التشويه والهدم.
الشعراء جاؤوا إلى “أرض المقاومة” ليضعوا على ضريح القائد دمعةً من حبر، ووردةً من قصيدة، وليؤكدوا أنّ الثقافة لا تُحاصر، وأنّ القصيدة لا تُهزم. الشعر عندهم تجديدٌ للبيعة، وتمسّك بالعروة الوثقى مع القائد الاستثنائي الذي أعاد للتاريخ مساره، فصار الشعر حارس الوعي، والوجدان ساحة مقاومة أخرى، والقصيدة مرقداً للوفاء لا يموت.





المصدر: موقع المنار