لعبت اجراءات الحظر الامريكية على الجمهورية الإسلامية الإيرانية دورا اساسيا في خلق فرصة جدية لتطوير كافة القطاعات الإنتاجية، من خلال اطلاق رؤية اقتصادية شاملة عرفت بنموذج الاقتصاد المقاوم. يعتمد هذا النموذج على العلوم والابتكار، ومحورية العدالة الاجتماعية، ومن أبرز انجازات هذا النموذج هو تحول ايران من دولة مستوردة للبنزين الى دولة مصدرة، حيث كان دخولها مرحلة تصدير البنزين في الشهر الثامن من العام الحالي 2019. فضلاً عن ذلك، فإن ايران بدأت بتصدير وقود الطائرات ابتداء في الشهر الثالث من العام الحالي 2019.
عادت العقوبات الجديدة في عام 2015 لتستهدف بشکل اساسي صادرات النفط الايراني، حيث انعكست سلبا على الإيرادات النفطية، فانخفضت صادرات النفط من 2.3 مليون برميل يوميا إلى أقل من مليون برميل. حيث بلغت العائدات النفطية 60.2 مليار دولار عام 2018. نتیجة لانخفاض العائدات النفطية توجهت الحكومة نحو دعم وتطوير الصادرات غير النفطية حيث حققت 21 مليار دولار خلال النصف الاول من العام الحالي 2019.
استطاعت ايران بفضل اعتمادها نموذج الاقتصاد المقاوم الصمود امام الحظر المالي والاقتصادي من خلال المحافظة على الاستقرار المالي والاقتصادي. وتطبيقا لهذا النموذج، عملت على تطوير البنى التحتية وقطاع النقل والمواصلات وربطت المدن الإيرانية ببعضها البعض من خلال تطوير شبكة السكك الحديدية، وإنشاء العديد من المطارات في المدن الكبرى. إضافة الى حفر انفاق المترو وتوسيع شبكة الطرق. واستخدام وسائل نقل متطورة كالباصات السريعة (BRT) داخل المدن الكبرى لتسهيل حركة المواطنين بكلفة متدنية جدا(تبلغ كلفة تذكرة الباصات السريعة من جنوبي طهران إلى شمالها بحدود 20 کلم حوالی 800 تومان أي ما يعادل 6.5 سنت).
بعيداً عن تاثير العقوبات، وفي ظل السعي لتطبيق العدالة الاجتماعية في دعم الطبقة المتوسطة وذوي الدخل المحدود، وتقنين استهلاك البنزين، والحد من تهریب البنزین، لجأت الحكومة إلى اصدار قرار رفع اسعار البنزين. وهو قرار صادر عن المجلس الأعلى للتنسيق الاقتصادي الذي يضم رؤساء السلطات الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وحظي القرار بموافقة ودعم قائد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي.
السؤال المطروح: ما هو الهدف من اتخاذ قرار رفع اسعار البنزين؟ وما هي تأثيراته على الاقتصاد الوطني الإيراني؟. يبلغ إنتاج البنزين حالياً في البلاد حوالي 107 ملايين ليتر يوميا، يتم استهلاك حوالی 97 مليون ليتر منها يوميا في الداخل. وقد سجل معدل استهلاك البنزين في السنة الحالية ارتفاعاً بمعدل 9% عن السنة الماضية. وبالتالي، في حال استمرار زيادة استهلاك البنزين بهذه الوتيرة في السنوات القادمة، فإنَّ الدولة ستکون امام خيارات عديدة منها: الاستيراد، او زيادة القدرة الانتاجية، او اللجوء إلى تقنين الاستهلاك من خلال رفع اسعار البنزين. ولكن بعد دراسة عن أفضل الخيارات، تم اعتماد الخيار الاخير .
للتوضيح بداية، لا بد من الإشارة إلى أن سعر صفيحة البنزين( 20 ليترا) قبل القرار بلغ 20000 تومان اي ما يعادل 1.66 دولار (بحسب سعر صرف 12000 تومان حالياً).
اما قرار رفع اسعار البنزين جاء كالتالي:
قُسّمت اسعار البنزين الى قسمين:
1_سعر مدعوم بزيادة 50 بالمئة، حیث اصبح سعر ليتر البنزين 1500 تومان (12.5 سنت).اي يبلغ سعر صفيحة البنزين 2.5 دولار.
2_سعر غير مدعوم بزيادة 300 بالمئة، حيث اصبح سعر ليتر البنزين 3000 تومان(25 سنت). اي يبلغ سعر صفيحة البنزين 5 دولار بمعدل ضعف سعر المدعوم.
وتضمن القرار الحصة المدعومة شهرياً للسيارات على اساس سعر ليتر البنزين 1500 تومان، اي يبلغ سعر صفيحة البنزين 2.5 دولار:
_60 ليتر شهرياً لجميع السيارات الخاصة التي تعمل على البنزين، و30 ليتر شهرياً للسيارات التي تستعمل البنزين والغاز معا.
_ 400 ليتر شهرياً لسيارات الأجرة التي تعمل على البنزين. و200 ليتر شهريا للسيارات التي تستعمل الغاز والبنزين معا.
_25 ليتر شهرياً للدراجات النارية.
_ 200 ليتر شهريا لسيارات الشحن الاقتصادية التي تعمل على البنزين، و60 ليتر شهريا للسيارات التي تعمل على البنزين والغاز معا.
_300 ليتر شهرياً لسيارات الشحن غير الاقتصادية التي تعمل على البنزبن، و120 ليتر للسيارات التي تعمل على البنزين والغاز معا.
_ 500 ليتر شهرياً لسيارات الاسعاف.
_120 ليتر شهرياً لحافلات المدارس.
_750 ليتر شهرياً لسيارات الأجرة التي تعمل خارج المدن.
وتجدر الإشارة هنا الى انه يتم استهلاك 64 مليون ليتر يوميا من البنزين على اساس الأسعار المدعومة، اي سعر ليتر البنزین 1500 تومان .
كما يجدرالذكر ان نسبة كبيرة من سيارات الشحن الكبيرة تستخدم مادة الكازوئيل. كما أن العديد من سيارات الأجرة تعمل على الغاز فقط.
على الرغم من ارتفاع أسعار البنزين يبقى سعر صفيحة البنزين غير المدعومة (5$) الاقل سعراً في العالم، مقارنة مع الدول النفطية كالسعودية حيث يبلغ سعر صفيحة البنزين فيها 10.94$، والجزائر 7$.
النتائج الايجابية لهذا القرار:
یهدف قانون رفع سعر البنزين إلى تقنين الاستهلاك اذ يبلغ معدل استهلاك البنزين في إيران ضعف المعدل العالمي، من هنا فإن الزيادة في الأسعار ستوفر 10% من مجمل الاستهلاك لمصحلة التصدير. وهذا سيساهم في توفير إيرادات جديدة تقدر ب 45000 مليار تومان(3.750 مليار دولار) سنويا من خلال تصدير 30 مليون ليتر يوميا. كما يهدف القرار إلى الحد من تهريب 20 مليون ليتر من البنزين يوميا، وذلك بسبب انخفاض السعر في إيران مقارنه مع الدول المجاورة، ما يكبد الدولة خسارة عائدات تقدر ب 36000 مليار تومان(3 مليار دولار) سنويا.
ويهدف ايضا الى المساهمة في تطبيق العدالة الاجتماعية، من خلال تخصيص جزء كبير من العائدات المحصلة من زيادة الأسعار المقدرة ب 31000 مليار تومان(2.583 مليار دولار) لذوي الدخل المحدود والطبقة المتوسطة، تُدفع تحت عنوان دعم معيشي ل 18 مليون أسرة إيرانية اي بحدود 60 مليون شخص ما يعادل 70% من مجموع عدد السكان.
ان الدعم المعيشي يتوزع على الشكل التالي:
_ 55000 تومان (4.58$) شهريا لكل أسرة تتالف من شخص واحد.
_ 103000 تومان (8.58$) شهرياً لكل اسرة تتالف من شخصين.
_ 138000 تومان (11.5$) شهریاً الى کل أسرة تتالف من 3 اشخاص.
_ 172000تومان(14.33$) شهریاً لكل أسرة تتالف من 4 اشخاص.
_ 205000 تومان (17$) شهرياً لکل أسرة تتالف من 5 اشخاص.
نلاحظ هنا ان مبالغ الدعم تبدو قليلة نسبياً، الا انها تساهم جدياً في تغطية بعض المصاريف، نظراً إلى انخفاض أسعار السلع والخدمات في البلاد. فعلى سبيل المثال، في العاصمة طهران. بعد اخذ عينة لاکثر من 20 أسرة، على اساس كل أسرة تتالف من 4 اشخاص من ذوي الدخل المتوسط، نجد فعلا أن متوسط مصاريف فواتير الكهرباء والمياه والغاز حوالي 12$ شهرياً. مما يعني ان مبلغ الدعم المالي المخصص لأسرة تتالف من 4 اشخاص وهو 14.33$ یکفي لتغطية هذه المصاريف.
يمكن القول إن دعم المواطن الايراني من خلال قرار رفع اسعار البنزين جاء من جهتين، الاولى عبر دعم كميات من البنزين كحصص شهرية، والثانية عبر توفير دعم مالي لكل شخص.
مع الاشارة الى ان الدولة الايرانية توفر دعماً للمواطنين على الكهرباء والماء والغاز والخبز والطبابة والتعليم، كما يوجد دعم كبير على استيراد بعض السلع الحياتية من خلال دعم سعر الصرف 4200 تومان وليس على اساس سعر السوق 12000 تومان. بالإضافة إلى دعم شهري بقيمة 45000 تومان(3.75$) لكل شخص منذ عهد الرئيس السابق احمدي نجاد.
إضافة إلى ما سبق، ان قرار زيادة أسعار البنزين يساهم ايضا في تخفيف ازمة ازدحام السير التي تقدر بنسبة 10%، لان الكثيرين من ذوي الدخل المحدود والطبقة المتوسطة سيستفيدون من وسائل النقل العمومية. وهذا سوف يؤدي بدوره إلى الحد من تلوث البيئة.
كما ان انخفاض استهلاك البنزين سيقلل من الاستثمار بمصفاة جديدة لتكرير البنزين. وهذا يوفر اعباء اضافية على الدولة. وعلى الرغم من آثاره الايجابية على الطبقة الفقيرة والمتوسطة، وزيادة إيرادات خزينة الدولة، الا ان للقرار آثاراً على التضخم. فكون البنزين سلعة اساسية وضرورية، فإن الزيادة في أسعاره ستعكس ايضا ارتفاعا في أسعار السلع الأخرى، لكن مع دعم سعر البنزين وتشديد دور الرقابة على اسعار السلع، فان نسبة التضخم تقدر بحدود 2.5٪ وفقا لإعلان وزير الاقتصاد.
اخيراً. ان هذا القرار وخاصة دعم ذوي الدخل المحدود والمتوسط هو بمثابة تعبير أساسي عن التضامن بين السلطة والشعب. كما ان الإيرادات الجديدة، ستنعكس ايجابيا على المواطن من جديد في حال تم توظيفها بمشاريع انمائية. ولكن من أجل توسيع مساحة العدالة الاجتماعية، كان من الأفضل تخصيص دعم مالي للمواطنين الذين لا يملكون سيارات. كما وأنَّ قرار دعم الطبقة الفقيرة والمتوسطة سيساهم في زيادة القدرة الشرائية وتمكينهم من شراء الحاجات الأساسية، فيزيد الاستهلاك، وبدوره يؤدي إلى زيادة رافعة الطلب على السلع والخدمات(شرط ضبط مستويات التضخم المحققة)، وهذا يخلق أيضا زيادة على الانتاج، مما يخلق فرص عمل جديدة تساهم في تخفيض معدل البطالة. من هنا يمكن أن نؤكد على اهمية دور نموذج الاقتصاد المقاوم في معالجة الاقتصاد بقدرات محلية، وليس كما يحدث في دول تعالج اقتصادها على أساس الاستدانة والاستيراد.
*دكتور متخصص في الإدارة المالية
المصدر: موقع المنار