في منتصف الثمانينات، وقرب أحد الحواجز الإسرائيلية في منطقة البقاع الغربي، إنهمرت بعض رشقات الصيادين الكثيفة فوق رؤوس الجنود، فلم يبق عنصرٌ واحد خارج الملالة، واستدارت الفوهات مذعورة لصد هجومٍ افتراضي، وساد الذعر على وجوه الجنود قبل أن يتبينوا أن ثمَّة صيادين غرباء عن المنطقة يجهلون وجود حاجز، واستمر توقيف الصيادين واحتجازهم ساعات قبل أن يتأكد الإسرائيليون أنهم لم يكونوا الهدف.
وإسرائيل اليوم تُدرك، أن بنك أهداف المقاومة بدأ يبني نفسه ويُراكم رصيده منذ اجتياح العام 82، وأن فعل المقاومة المُجدي هو بثّ الرعب في العنصر البشري الإسرائيلي، بعد أن نَعِم الإسرائيليون لعقود بالسلام،يفترشون الشواطىء بأمان وجيشهم يقصف ويدمِّر ويقتل في بلدان الجوار.
وبليغُ جداً توصيف سماحة السيد حسن نصرالله، خلال إطلالته في “حوار العام” عبر قناة الميادين منذ نحو أسبوع، أن إسرائيل نشرت ترسانات النووي والبيولوجي والكيماوي على امتداد فلسطين المحتلة رغم صغر المساحة، ربما لأن لديها تعهدات دولية وعربية بعدم الإعتداء على الداخل الإسرائيلي كي لا تغدو حاويات الأمونيا في حيفا على سبيل المثال قنبلة نووية قد تقتل 800 ألف شخص ببضعة صواريخ!
بعد العام 2000، بات هناك كلامٌ آخر مع إسرائيل، والتدابير التكتيكية، ومن ضمنها القبب الحديدية، لم تعُد كافية أمام التهديد المباشر الذي بات يقضّ مضاجع المُحتل أو المستوطن الإسرائيلي، ومسألة “صراع البقاء” هي عنوان استراتيجية إسرائيلية وليدة، حاولت إسرائيل تعزيزها عبر عشرات ميارات الدولارات سنوياً من الأسلحة الأميركية، لكنها لم تستطع إدخال الحد الأدنى من الشعور بالأمان لدى الإسرائيليين، الذين تنمو يومياً هجرتهم العكسية من إسرائيل الى أوروبا وأميركا بشكلٍ خاص، رغم كل مغريات بناء المستوطنات لهم والتي ما زالت تتمدَّد وتقضم أراضي الفلسطينين كما الشقق الفارغة المعروضة للإيجار.
تقارير وإحصاءات عديدة تتحدث وتحذر من ازدياد الهجرة المعاكسة للإسرائيليين إلى الخارج، وبخاصة، هجرة العلماء وأصحاب الإختصاص، مقابل تراجع هجرة يهود العالم لإسرائيل، لدرجة قاربت اليأس لدى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وبات استقدام كل يهودي الى إسرائيل إنجازاً، بحيث أن إسرائيل فاخرت منذ أيام، وبعد جهودٍ دامت أكثر من سنة،بإستقدام 17 يهودي يمني إليها عبر دولة ثالثة، في حين رفض 50 يهودي يمني مغادرة بلادهم رغم كل المغريات.
وإذا كان عدد اليهود الذين تركوا إسرائيل منذ عام 1948 وحتى نهاية عام 2011، يزيد عن مليون إسرائيلي، فإن هؤلاء المغادرين أو المهاجرين، ما زالوا مسجلين في سجلات وزارة الداخلية بأنهم مواطنون إسرائيليون يُشملون مع العدد السنوي للسكان في إسرائيل، وقد اعترفت وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني، أن”هؤلاء الذين يتركون البلاد، يغادرون لأسباب حياتية واقتصادية، وغلاء الشقق السكنية خارج عشوائية المستوطنات، إضافة الى عدم الاستقرار والقضايا المتعلقة بالأمن، ويبحثون عن مستقبل أفضل لهم في الخارج، نتيجة الإحباط واليأس”.
وفي استطلاع للرأي العام الإسرائيلي، في نهاية العام 2013، أظهر أن 51% من الإسرائيليين يفكرون في الهجرة من إسرائيل، خاصة نحو الولايات المتحدة، وهذه الهجرة يطلقون عليها في إسرائيل الهجرة المعاكسة، وحسب هذا الاستطلاع فإن من أهم الأسباب التي تؤدي إلى الهجرة، غلاء المعيشة، وارتفاع تكاليف الحياة، إضافة الى القلق الأمني الوجودي، وأن الكفاءات العلمية تأتي في طليعة المغادرين دون عودة، وأن 20% من حملة شهادات الدكتوراه في موضوع الرياضيات غادروا إسرائيل، وحسب التحقيق الذي أجري من قبل “مركز طاؤوب للأعمال البحثية الإسرائيلي” تبين أن من بين كل مئة محاضر في الجامعات الإسرائيلية، يفر من البلاد (25) محاضراً، خاصة الى الولايات المتحدة، مما أدى إلى تقليص عدد المحاضرين في الجامعة العبرية بنسبة 17%، وفي جامعة تل أبيب 26%، وفي كلية الهندسة التطبيقية “التخنيون” في حيفا، بنسبة 26% أيضاً.
والقرار الأوروبي الذي صدر منذ سنوات بمنح الجنسية وجوازات السفر لجميع اليهود الذين كانوا من مواطني الدول الأوروبية، مع سريانه على أبنائهم وأحفادهم، زاد من حدَّة الهجرة، وشَهِدت سفارات الدول الأوروبية وما زالت،طوابير مزدحمة من الإسرائيليين، لطلب الجوازات التي تمكنهم من الانتقال إلى جميع الدول الأوروبية متى يشاؤون، تحسُّباً من تردي الأوضاع الأمنية في إسرائيل.
المؤرخ الإسرائيلي ستيفان رنسيمان، قارن بين انهيار المملكة الصليبية ومستقبل إسرائيل، بأن الكثير من الصليبيين الذين احتلوا البلاد، عادوا إلى أوطانهم وأوطان آبائهم وأجدادهم، واصفاً الهجرة اليهودية المعاكسة بالكارثة بالنسبة لإسرائيل، وهذا يؤدي إلى هجر الحلم الصهيوني، ويهدد مستقبل الكيان الإسرائيلي، بحيث أصبح المهاجرون اليهود وأبناؤهم لا يتكلمون العبرية، وأن 58% منهم يتزوجون زواجاً مختلطاً، ويبتعدون عن إسرائيل.
أما الأديب الإسرائيلي المعروف دافيد غروسمان الذي تُرجمت بعض كتبه إلى العربية، وقُتل أحد أبنائه خلال حرب تموز 2006، فقد درس إمكانية الهجرة من إسرائيل، وكان له كتاب بعنوان “امرأة تهرب من جلدها” يحلل فيه قضية هجرة اليهود إلى الخارج، ويقول أن إسرائيل وبعد عدة عقود على إقامتها، فإنها لا تشكل الوطن الذي اعتقدنا بأنه سيكون.
هذا هو الهاجس الذي يعيشه المستوطن الإسرائيلي، بعد أن انحسرت آمال البقاء “المكفولة دولياً وعربياً”، لأن المجتمع الإسرائيلي الذي هو أبعد ما يكون عن المجتمع المقاوم، بات مطوَّقاً بمجتمعات مقاوِمة سواء في فلسطين أو لبنان، وبات يعيش رُعب الفناء سواء من الصواريخ النوعية التي تمتلكها المقاومة اللبنانية أو الصواريخ المتواضعة في قطاع غزة، ومهما أرتبكت إسرائيل من بنك الأهداف العسكرية والبُنيوية للمقاومة سواء حاويات الأمونيا أو مواقع التخزين النووي إضافة الى مئات الأهداف مع إحداثياتها، فهي أمام أزمة وجودية حقيقية لأنها ليست تترامى جغرافياً كما إيران على سبيل المثال، ولا تمتلك بأمان كل مقومات البقاء كدولة إقليمية، ولا شعبها متمسِّك بالبقاء وهو القادم من جهات العالم الأربع، وليس لديه إنتماء إلَّا ليهوديته سواء حملها في إسرائيل أو حملها معه الى الموطن الأصلي ودون عودة، وقد يكون العنصر البشري في إسرائيل هو نقطة ضعفها الذي لن تحافظ عليه كل المغريات وترسانات الأسلحة غير المجدية لتأمين أمانه…
المصدر: موقع المنار