أقفلت السعودية الباب أمام أي حل أو حوار يعول عليه لانقاذ المنطقة وأهلها من أتون نار، عمدت الممكلة إلى تسعيرها في أكثر من بلد من اليمن الى ليبيا فسوريا والعراق وصولا إلى السعودية نفسها، بعد ارتكابها جريمة قتل الشيخ نمر النمر.
لم تكتف السعودية بقطع جسور التلاقي الذي طالما سعت إليه الجمهورية الاسلامية الإيرانية، بل عمدت على إغلاقه بإحكام، ورمي المفاتيح الدبلوماسية خارجاً، التي تبقى الشعرة الأخيرة للوصل بين الدول لا سيما في الأزمات التي سعّرتها السعودية.
هل ما حصل كان صدفة أم أنّه أمر مبيّت؟
من الطبيعي أن يكون حكام آل سعود قد درسوا مسبقاً ردّات الفعل التي ستخرج رداً على جريمة إعدام الشيخ نمر باقر النمر، خاصة وأنّ المسؤولين السعوديين سمعوا من أطراف عدة نصائح وتمنيات بعدم الإقدام على مثل هذه الجريمة . إذا لماذا هذا الإصرار، ولماذا هذا التوقيت بالذات؟
ثمة من يربط بين الأحلاف التي أعلنتها السعودية مؤخراً وبين قرارها إعدام الشيخ النمر. ارتُكبت الجريمة، وسرعان ما تدحرجت الأمور باتجاه قطع العلاقات الدبلوماسية، وتحوّل الأنظار إلى مكان آخر، وكأن الجريمة الأساس هي التعرض لسفارتها في إيران. تريد المملكة السعودية أن تقتل من تشاء، وأن تُجرِّم من تريد دون أن يستنكر فعلها أحد تحت بحجة “السيادة”، إذا فلماذا لم تقبل السعودية نفسها بهذا المنطق في دول مثل سوريا والعراق وغيرها، لم تراعِ “سيادة”، وحاربت كل مذعن للدولة، في وقت يُعدم فيها من يُعلن أن لا بيعة في عنقه لحكامها!
عودة إلى الذاكرة القريبة، خسرت إيران أكثر من 500 ضحية في فاجعة منى بموسم الحج الأخير، وبالرغم من عدم التعاون السعودي معها لم تقدم الجمهورية الإسلامية على أية خطوة استفزازية، مكتفية بالمطالبة بالكشف عن مصير أبنائها دون أن تمس بعلاقات الدبلوماسية مع المملكة، أما السعودية و بدل أن تبرر جريمتها الأخيرة التي مست بمشاعر فئة كبيرة من المسلمين، سارعت إلى قطع العلاقات مع إيران، ليتبعتها بعض الدول الملحقة… خطوات يمكن أن توضح ما أن ما نشهده من سياسات جنونية من قبل حكام المملكة كان مبيّتاً.
ثمة من يقول إن السعودية التي خسرت الكثير من أوراق اللعبة لم يعد لديها إلا ورقة وحيدة تراهن عليها، وهي تحويل الصراع من سياسي إلى صراع طائفي يركب موجته آل سعود وتمكنّهم من المنطقة.
الوهابية وجرائمها بحق المسلمين السنة
النبش في التاريخ قد يمّكننا من فهم العقلية السعودية، إلا أنه حتماً لن يخدم السعودية التي تريد حمل لواء “السنة” لتقول إن عدوكم هو “الشيعة” لا أي جهة أخرى، مهما استعبدكم واحتلكم الآخرون!
314 “غزوة” أعملت سيوفها برقاب المسلمين، والسنة منهم أكثر من الشيعة، ارتُكبت مع نشأة ما يُسمى بـ “الدولة السعودية الأولى”. ما يوثقه مؤرخو الوهابية أنفسهم يفضح التاريخ الإجرامي للدعوة التي قامت بسيف محمد ابن سعود وفكر محمد بن عبد الوهاب.
في تسجيل على اليوتيوب، تحدث المعارض السعودي والمفكر الاسلامي محمد المسعري (الوهابي سابقا)عن الكتب التي تطبعها المملكة السعودية، والتي توثق لبدايات الدعوة الوهابية. يتوقف المسعري عندما يتناوله كتاب المؤرخ السعودي إبن غنام، الذي عاصر نشأة “الدولة السعودية الأولى”، بعد الصفقة التي عُقدت بين ابن سعود وابن عبدالوهاب.
يقول المسعري: “عندما اطلعنا على كتب إبن غنام أمسكنا رؤوسنا، مذابح شاملة! دخلوا “سيهات” على “المشركين” وقتلوا 1500 رجل وإمرأة وطفل “. وأوضح أن سيهات لا يقطنها الشيعة بل هي بلدة مختلطة فيها من السنة والشيعة الذين أبيدوا بالكامل بسيوف الوهابية.
قارئ كتاب ابن غنام وغيره من مؤرخي السعودية، الذين يُعاد طباعة كتبهم من قبل “دارة الملك عبدالعزيز في المملكة” كل فترة، لن يجهد قبل أن يدرك أن عبارة “مشركين” قُصد بها كل سكان الجزيرة العربية ممن لم يتبعوا دعوة محمد بن عبدالوهاب، وأن عبارة “مسلمين” استخدمت للإشارة إلى أتباعه حصراً.
يقول ابن غنام في كتابه: “و قد غزا المسلمون (الوهابيون) ثرمدا (شمالي الرياض) مرة ثانية… ولم يقع قتال إذ لم يخرج من أهل المدينة أحد لقتالهم.. فدمر المسلمون المزارع و انقلبوا راجعين”.
عدم وقوع المعركة بين الغزاة الوهابيين وأهل البلدة من المسلمين الآمنين، لم يحل دون تدميرهذه البلدة . أي موجب لغزو المسلمين وتدمير مزارعهم؟ الإجابة يحملها فكر ابن عبدالوهاب الذي كان يعتبر أنَّ جميع أهل نجد من دون استثناء “كفرة تباح دماؤهم ونساؤهم وممتلكاتهم”، والمسلم فقط هو من آمن بالسنة التي وضعها هو.
ويتابع المؤرخ السعودي في نقله لرسائل محمد بن عبد الوهاب .يقول: “إن عثمان بن معمَّر – حاكم بلد العيينة – مشركٌ كافر ، فلما تحقق المسلمون من ذلك تعاهدوا على قتله بعد انتهائه من صلاة الجمعة ، وقتلناه وهو في مصلاه بالمسجد في رجب 1163 هـ”.
أفتى شيخ الوهابية الأكبر بكفر حاكم مسلم، وتم قتله في “مصلاه” بإسم الدعوة إلى الدين. هكذا أطلقت الوهابية عنان التكفير، وشرعت لقتل المسلمين في بيوت الله، ومنذ نشاتها الأولى لم تفرق الوهابية بين مسلم وآخر، فكل من هو خارج دائرة الوهابية: كافر مشرك ولو نطق بلا اله إلا الله! سنة سنها شيخهم الأكبر وباتت ممارسة يومية لجماعات التكفير، الذين يجدون ما يُشرعن أفعالهم في كتب التاريخ السعودية.
مؤرخ سعودي آخر هو عثمان ابن بشر يتحدث عن قتال جيش الوهابيين للمسلمين السنة فيقول: “فكرُّوا على أهل القصيم كرة واحدة،( اي هاجموا) فغابت الشمس قبل وقت غيوبها، وأظلم بحالك الغبار شمالها وجنوبها، فوطأهم المسلمون (الوهابيون) وطأة شديدة، فلما سمعوا ضرب الهمام ولوا منهزمين، وعلى جباههم هاربين، وذهل الوالد منهم ولده، والمنهزم أشفق على السلامة ورمى ما بيده، واستمر الضرب في أقفيتهم بعدما كان في صدورهم، وانتقل الطعن من نحورهم إلى ظهورهم، وقتل المسلمون (الوهابيون) فيهم قتلاً ذريعا، وفتكوا فيهم فتكاً شنيعا، فكان الواحد من المسلمين يقتل العشرين”!
هكذا وباسم الوهابية و”التوحيد” الذي صاغ مفاهيمه ابن عبد الوهاب، كفر السعوديون من أتباع ابن سعود وابن عبدالوهاب المسلمين عامة.
وعودة إلى التاريخ الحديث نوعاً ما: باسم الإسلام حاربت السعودية القومية العربية. يذكر كتاب ” زمن الصحوة..الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية” للكاتب الفرنسي ستيفان لاكروا ، كيف أن السعودية استخدمت الدعاة “الإسلاميين” للتصدي لنفوذ جمال عبدالناصر المتصاعد في المنطقة، رداً على إذاعة “صوت العرب” التي انطلق بثها في عهد عبدالناصر، أطلقت السعودية إذاعة “صوت الإسلام”، ومقابل الإصلاحات التي باشر بها الرئيس المصري آنذاك في الأزهر الشريف، أنشأت المملكة الجامعة الإسلامية لتصدر التكفير وتختصر “الحالة الاسلامية”.
مما تقدم يتضح أن آل سعود وعلى مر التاريخ يستخدمون الاسلوب ذاته لحماية ملكهم وسلطانهم ولاخضاع المسلمين تحت سلطانهم ولملكهم حتى باتوا يتعاملون مع الناس باعتبارهم أرقاماً وحاشية يُفرض عليهم واجب الطاعة، وإلا فدمهم مباح.
هذا التاريخ يكرر نفسه اليوم مع الجمهورية الاسلامية في ايران إذ أن آل سعود لم يكن بمقدورهم إلا اللعب على وتر الانقسام المذهبي بعد أن فشلت كل محاولاتهم سابقا في حصار ايران تنفيذا للاملاءات الاميركية.
عود على بدء اذا فان جريمة اغتيال الشيخ نمر النمر هي إيغال في الفتنة التي تنشدها السعودية، والتي وحدها كفيلة بإحراق المنطقة بمن فيها، وهو حريق لا يضير السعودية طالما أنه يطال الكل بمن فيهم “إيران”.