في شهر أيار/ مايو من العام 2013، أطلق رئيس لجنة الأشغال النيابية محمد قبَّاني صرخته، بضرورة تشكيل “لجنة طوارىء مائية” لمواجهة الشحّ في المتساقطات، وبعد عدة أشهر، إقترح الحلّ، والذي يقضي باستيراد الماء عبر البواخر من تركيا!
ولغاية اليوم، لم يتقدَّم أحدٌ من أهل الإختصاص، بدراسة واحدة عن مشروع لتكرير مياه البحر، وتغطية العجز في تأمين مياه الري والإستخدام المنزلي على الأقل، للمناطق المحاذية للشواطىء، علماً بأن مياه الشرب مؤمنة عبر الشركات الخاصة “الفاتحة على حسابها” ينابيع خاصة، مما يعني أن الدولة لا تمتلك حلولاً منطقية وعملية لمشاكل الناس، مع بروز توجُّهات للإعتماد على القطاع الخاص لسدّ فراغ كل تقصير خدماتي رسمي، بدءاً من التشبُّه بشركة كهرباء زحلة، التي أمَّنت الإكتفاء الذاتي دون الحاجة لمؤسسة كهرباء لبنان، وانتهاء بابتداع أفكار ضمن البلديات للمعالجات البيئية.
ومع عودة الملف الحياتي الآخر المتمثِّل بأزمة النفايات الى الواجهة بعد إقفال مطمر الناعمة، وعودة التقاذف بين المسؤولين، وقذف البلديات الجديدة بعبء لا تستطيع غالبيتها معالجته، بغياب حقوقها لدى الصندوق البلدي المستقل، إضافة الى عدم توفُّر المساحات اللازمة للفرز والتسبيخ والطمر،لا بدّ للبنانيين سواء من انتخبوا بلدياتهم أو من سوف ينتخبون، أن يدركوا، بأن التعويل على البلديات الجديدة لتنوب عن الدولة في تبنِّي الملفات اليومية من ماء وكهرباء وصيانة طرقات ومعالجة نفايات، إضافة الى المهام الخدماتية والإدارية الأخرى هو سابق لأوانه، قبل إقرار اللامركزية الإدارية، خاصة بعد الطابع العائلي الذي ساد الترشيحات في بعض البلدات البقاعية والكسروانية والمتنية، دون التركيز أحياناً على الكفاءات، في محاولاتٍ ربما تكون مشروعة للعائلات لتغدو هي السلطة، وحلّ مشاكل مزمنة في بلداتها.
لكن محاولات تغييب “الحزبية” عن سياسة إدارة القرى والبلدات، والعودة الى العائلية التي هي أقرب الى العشائرية بعض الأحيان، لا تُبشِّر بمجتمع موحَّد على الرؤية الإنمائية المجرَّدة، رغم أن مرشَّحي العائلات هم في غالبيتهم ملتزمون بالأحزاب نفسها التي ينافسونها بلدياً.
البلديات، هي المؤسسات المدنية الوحيدة الباقية في الدولة اللبنانية، نتيجة الفراغ الرئاسي والتمديد لمجلس النواب حتى العام 2017 ووجود مجلس وزراء أشبه بمؤسسة تصريف أعمال، والدولة أعجز من أن تُعالج حتى النفايات، فتضعها تارة على أرصفة التسفير، وتارة أخرى ترميها على البلديات، مع استمرار حجز المخصصات البلدية لدى الصندوق البلدي المستقل عن سنوات خَلَت، علماً بأن البلديات تواجه واقع عدم إقرار اللامركزية الإدارية في المدى المنظور، وعدم تمتُّعها بالاستقلال الإداري والمالي للأسباب التالية:
أ- يقضي الاستقلال الإداري أساساً بتوفُّر الأهلية، ويخوّل السلطات المحلية اتخاذ قرارات ذات صفة إدارية وتنموية في مجالات يحددها القانون ضمن النطاق الجغرافي والإداري، دون الرجوع إلى السلطة المركزية، أما الاستقلال المالي فإنه يمنح السلطات المحلية القدرة على تطبيق قراراتها الإدارية عمليّاً ضمن حدودها الجغرافية – الإدارية، بما يقتضيه ذلك من ذمة مالية وموازنة مستقلة ونظام محاسبة مستقل وأنظمة مالية خاصة بها، تمكِّنها من تحصيل العائدات المالية.
على أن استقلال السلطات المحلية اللامركزية يبقى استقلالاً نسبيًا في جميع الأنظمة اللامركزية، لأنها جزء لا يتجزأ من الدولة، ترتبط عضويًا بالسلطة المركزية وتخضع لسلّم القوانين، وهكذا تحتفظ السلطة المركزية بحق الرقابة على عددٍ من قرارات السلطات المحلية اللامركزية، وهنا تكمن العرقلة الإدارية التي تحكم أداء الدوائر الحكومية في لبنان والإنعكاس السلبي على فاعلية البلديات وعجلة التنمية.
ب- عدم اعتراف السلطة المركزية بوجود مصالح محلية متمايزة عن المصالح الوطنية، وضرورة اكتساب السلطات المحلية شخصية معنوية، لأن من شروط تحقيق اللامركزية، الاعتراف النهائي والصريح بوجود حاجات ومتطلبات وأولويات محلية تختلف عن تلك التي تتولاها السلطة المركزية وأجهزتها، ما يعني، الإعتراف بعدم قدرة السلطة المركزية وأجهزتها على التدخل في جميع القضايا الطارئة وتفاصيلها.
والجدير بالذكر، أن تشريع العمل البلدي في لبنان يتضمّن الاعتراف بخصوصية المصالح المحلية وتمايزها عن المصالح المركزية، بل إنه يذهب أكثر من ذلك في اتجاه الاعتراف بمبدأ ثانٍ، وهو الاعتراف بالشخصية المعنوية للسلطات المحلية، كما هي الحال في البلديات حالياً، وهنا لا بدَّ من التبصُّر عن مدى استعداد أهل المحاصصات والصفقات من النافذين لإبداء نوع من “التعفُّف”، وجهوزية المجلس البلدي “العائلي” للعمل من أجل “الكلّ”، وهنا تكمن أهمية المؤسسة الحزبية الجامعة التي ترعى الجميع.
ج- معظم اللبنانيين ما زال يرى في اللامركزية مجرّد عملية إدارية ترمي إلى “التقريب بين الدولة والمواطنين”، من خلال تسهيلها تصريف معاملات المواطنين الإدارية على الصعيد المحلي، ما يقضي بتعزيز سلطة المحافظين والقائمقامين، الذين يجري تعيينهم في مناصبهم بموجب قرار وزاري، وباتوا يمثلون السلطة المركزية، أي الحكومة ووزاراتها وأجهزتها على الصعيد المحلي، مما يعني إجتزاء من صلاحيات الإدارة المحليَّة لصالح المركزية الممثَّلة بالمحافظين والقائمقامين، ويجعل من اللامركزية الإدارية حالياً مجرَّد طروحات لمستقبلٍ بعيد.
وطالما أن البلديات كسلطات محلِّية، لن تتمتَّع بالصلاحيات التي تنصُّ عليها اللامركزية الإدارية، وطالما أن الترشيحات العائلية للبلديات الجديدة انبثقت من محدودية المقاعد أمام أعداد كبيرة من المرشحين الراغبين العمل في الشأن العام، فإن الحزبية قادرة أن تكون الحاضنة للتنوُّع العائلي، و”الهيئة الناظمة” للعمل البلدي، شرط أن تكون ضمن الروحية التي أعلن عنها نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم عند إعلان نتائج بعلبك الهرمل: “لن تكون البلدية مجموعة حزبية، بل جماعة تتولى العمل الإنمائي دون سواه، والحزب يكون داعماً لها وسنداً في القيام بمهامها”، وهنا تبرز لامركزية إدارية غير رسمية ومؤقتة، أشبه بالإدارة الذاتية للقرى والبلدات، تُدير شؤون الناس ضمن الأنظمة والقوانين المرعية، لتسهيل أمورهم ضمن الحدّ الأدنى، بانتظار أن تغدو مركزية الدولة قادرة على إقرار اللامركزية الإدارية وملامسة هموم المجتمعات المحلية…