مرّ أكثر من شهر على تشكيل “لجنة تقصّي الحقائق السورية” في التاسع من آذاربعد المجزرة العنيفة التي شهدتها مناطق الساحل السوري، حيث سقط عدد كبير من الضحايا المدنيين نتيجة أعمال عنف متنوّعة، جاءت عقب دعوة وزارة الدفاع السورية لتوجيه أرتال عسكرية إلى المنطقة للتعامل مع ما وصفته بـ”هجمات لفلول النظام”، بالتزامن مع دعوات للنفير العام صدحت بها بعض الجوامع.
وبينما انقضت المهلة الزمنية الممنوحة للجنة دون تقديم تقرير أولي، طالبت اللجنة بتمديد عملها ثلاثة أشهر إضافية غير قابلة للتجديد، بحجة أنّ شهرًا واحدًا غير كافٍ لإنجاز مهام التحقيق. خطوةٌ قرأها ناشطون حقوقيّون على أنّها ذات بعد أمني – سياسي أكثر منها قانونية، خاصة وأنّ المجازر المرتكبة موثقة بالصوت والصورة، بعضها على يد الجاني نفسه، وبعضها الآخر ارتُكب بدوافع طائفية تجاوزت “ردّ الفعل” على الهجمات التي استهدفت حواجز تابعة لـ”الأمن العام” في السادس من آذار الماضي.
تشكيل اللجنة جاء نتيجة ضغوط شعبية ودولية، في وقت تسعى فيه إدارة الشرع لتحصيل شرعية دولية. وقد أحدث هذا التشكيل تفاؤلًا حذرًا لم يرقَ إلى مستوى الثقة الكاملة بمخرجات اللجنة، التي لم تُفصح حتى الآن عن تقرير أولي يُعرض على المجتمع، بل برّرت، في بيان سابق، أنّها تواجه “تعقيدات ميدانية”. وهو تبرير يعكس، بحسب متابعين، حالة الانفلات التي تقودها الفصائل المتنوعة، والتي وضعت اللجنة في مأزقٍ حقيقي بسبب تداخل الأدلة، ما دفع بها إلى التلميح – وهو ما يدركه الحقوقيون – إلى تنوّع وتعدّد طبيعة الجرائم المرتكبة، ما يستدعي “فحص التكييف القانوني للأحداث”.
رئيس الجمهورية السيد #أحمد_الشرع يجتمع مع لجنة تقصي الحقائق المكلفة بالتحقيق في أحداث الساحل لعرض آخر المستجدات#سانا pic.twitter.com/HBasbO0Clu
— الوكالة العربية السورية للأنباء – سانا (@SanaAjel) April 10, 2025
تصريح الناطق باسم اللجنة يعكس هذا التوجه، والذي قد يتيح لها أساليب للالتفاف على توصيف الجرائم – التي لم تتوقف حتى بعد تشكيلها – ما يعني تعدّد أوجه “الحقيقة”، وإدانة الجاني – حتى وإن كان محسوبًا على إدارة الشرع – ولكن دون تحميل المسؤولية السياسية المباشرة للإدارة، تجنبًا لإدخالها في دائرة فقدان الشرعية، التي تعاني أصلًا من هشاشة واضحة، ظهر أثرها في انتقادات كثيرة، من أبرزها تلك الموجّهة لـ”مؤتمر الحوار الوطني” و”مؤتمر النصر”.
تزداد أهمية التحقيق اليوم، خصوصًا وأنّ المطالب الأميركية – والتي تُعد تلبيتها شرطًا أساسيًا لرفع العقوبات عن سوريا – تنصّ على إقصاء الفصائل الإرهابية المتطرّفة وعدم تمكينها من مناصب عليا في الإدارة الجديدة. وهو ما خالفته إدارة الشرع، سواء قبل الإعلان الدستوري أو بعده، في تناقض واضح مع التوجه نحو تأسيس جيش وطني موحّد. فالمجازر المرتكبة على أيدي جهاديين أجانب تتعارض مع هذا التوجه، وتضع الإدارة في حرج بالغ، بين الشكوك بقدرتها على ضبط الوضع، من جهة، والانتقادات التركية – كونها الداعم الأبرز لتلك الفصائل – من جهة أخرى.
وهذا كلّه يُضفي على عمل اللجنة بُعدًا سياسيًا – أمنيًا، يتجاوز الإطار العملي المرتبط بالوقائع، في ظل تأكيدات تركية متكرّرة بامتلاكها معطيات دقيقة حول أحداث الساحل، ما يثير تساؤلات عن مصير المسلحين الأجانب، ومآل الوضع، طالما أن وزارة الدفاع تدّعي أنها لا تملك السيطرة عليهم، أو أنّهم خرجوا عن طاعتها. والأهم: ما هو دورهم وتأثيرهم في “التفاهم” الجاري لإرضاء جميع الأطراف؟
قرار #تشكيل_اللجنة لم يتضمن صراحة وجوب تقديم توصيات لتغيير #السياسات_الأمنية أو ضمان عدم تكرار #المجازر في المستقبل، وهذا ما يتعارض مع تأكيد لجان #حقوق_الإنسان الدولية على أهمية استخلاص الدروس من التحقيقات لمراجعة السياسات والممارسات لمنع تكرار #الانتهاكات #أحداث_الساحل #سوريا pic.twitter.com/ZrPNKHocy2
— سوريون من أجل الحقيقة والعدالة (@STJ_SyriaArabic) April 10, 2025
رغم حرص اللجنة على استخدام ألفاظ قانونيّة، في محاولة لخلق مساحة ثقة – آخذة في التلاشي – إلا أنّها حدّت باللفظ عن المعنى، لا سيما بعد تقرير منظمة “العفو الدولية” (أمنستي) الذي وصف الانتهاكات بجرائم حرب، وأشار إلى ارتباط الجماعات المنفذة بها بالحكومة السورية. اللجنة توقفت عند توصيف “أمنستي” لما جرى بين 6 و10 آذار كـ”جرائم حرب”، وردّت بأنّ “هذا النوع من الجرائم يتطلب، إلى جانب الركن المادي، إثباتًا للركن المعنوي المتمثّل في القصد والعلم”. لكنها أغفلت أنّ لهذه الجرائم عنصرًا سياقيًا يتمثل في النزاع المسلح، أي أنّ القوات خرجت، بحسب زعمها، لمواجهة “فلول النظام” بحزم، وأنّ الأفعال – كالقتل العمد، والنهب، والسرقة – وقعت في هذا السياق.
وإذا كان الفعل موجّهًا للمقاتلين، فكيف تبرَّر الجرائم بحق المدنيين؟ وهل ستفصل اللجنة بين قتل المدنيين وسياق الأحداث؟ وإن فعلت، فما نوع الجريمة، وهل ستخضع لمحاكمة وطنية، أم أنّ المناداة بلجنة دولية مستقلّة هي المخرج الوحيد؟ الإجابة ليست بـ”نعم”، إذ لا تزال اللجنة تبحث في مدى السيطرة الفعلية للحكومة على الجماعات التي ارتكبت الانتهاكات، ومدى انضوائها الحقيقي تحت الأطر العسكرية الحكومية.
ورأى “المرصد السوري لحقوق الإنسان” أن تمديد عمل لجنة تقصي الحقائق لثلاثة أشهر إضافية خطوة تهدف إلى إطالة أمد التحقيق، وتمييع الجرائم المرتكبة، ما من شأنه أن يؤدي إلى استمرار وتزايد الجرائم التي تهدد استقرار المجتمع، وتزيد من الشعور بالظلم، وتقلّل الثقة في النظامين القضائي والقانوني.
وقد يؤثر تمديد عمل اللجنة على سير التحقيقات، حيث قد تتغير المعطيات مع مرور الوقت، في ظلّ محاولات لإخفاء الأدلة، وإجبار ذوي الضحايا على التوقيع على إفادات تزعم أن القتلة هم جماعات إرهابية من “فلول النظام”.
بالمجمل، نصّ الإعلان الدستوري على دسترة العدالة الانتقالية، وإنشاء هيئة لتحقيقها، مستثنيًا جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم التي ارتكبها النظام السابق، من مبدأ “عدم رجعية القوانين”. ومع أن هذه الجرائم لا تخضع للتقادم، فإنّ الإعلان لم يوضح مصير الجرائم التي تُرتكب بعد سقوط النظام. هل ستسقط بالتقادم؟ ومن سيُحقّق فيها؟ هل سنواصل التحقيق مع أنفسنا؟
المصدر: موقع المنار