أمين أبوراشد
عندما كتب الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش قصيدته: “جندي يحلم بالزنابق البيضاء”، كانت بوحاً منه، عن حوارٍ دار بينه وبين جندي “إسرائيلي”، أفصح عن انطباعاته تجاه “إسرائيل” التي يسكنها ولا ينتمي إليها، ويعيش فيها ويشعر بالغربة عنها، وقد أسرَّ الجندي له، أنه يحلم بأرضٍ ومروجٍ في البلاد التي قَدِم والده منها، أرضٌ تنبت فيها الزنابق البيضاء.
هذا الجندي الذي ينتمي لشريحة اليهود الأشكيناز، أهله قدِموا من أوروبا الغربية ضمن حملة “الهجرة الى إسرائيل” المُتعارف عليها بالعبرية بإسم “عليا” أي الصعود، أما هو فكان واحداً من مئات الآلاف الذين هاجروا من “إسرائيل” ضمن الهجرة العكسية إلى أميركا والبلدان الأوروبية، المُتعارف عليها بإسم “يريدا” أي النزول.
إنه “شلومو ساند”، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب حالياً، وهو مؤرخ كبير وكاتب بارز معادٍ للصهيونية، وتعززت لديه مشاعر اللا إنتماء الى كيان ما تسمى “دولة إسرائيل”، من خلال دراساته العميقة للتوراة والتلمود وسائر الكتب اليهودية، التي تنصّ على أن فكرة قيام دولة مدنية ديمقراطية إسمها “إسرائيل”، هي وليدة فكرة صهيونية منافية لتعاليم الكُتُب، ومعصية لإرادة الله الذي غضب على اليهود وأوصاهم بعدم بناء “مملكة” جديدة بعد ارتكابهم أخطاء في مملكة “داود وسليمان” ولاحقاً مملكة “حشمونائيم”، وأن غضب الله عليهم يقضي بأن يعيشوا بين الأمم، ولا يُنشئوا مملكة أو دولة مستقلة، التي هي “إسرائيل” اليوم.
“شلومو ساند” الذي سبق وهاجر إلى فرنسا، برر عودته إلى “إسرائيل” بأن الشوق غلبه إلى المدينة التي تربى فيها، لكنه استمر رافضاً في كتاباته الإعتراف بالكيان الصهيوني كدولة، وله في هذا السياق ثلاثة كتب: “إختراع الشعب اليهودي” عام 2009، و “إختراع أرض إسرائيل” عام 2012، و” كيف لم أعد يهودياً” عام 2014.
والهجرة العكسية من “إسرائيل” أو “يريدا” بالعبرية، لو قُدِّر للراحل محمود درويش من عليائه رؤية مشهدياتها الآن بعد عملية “طوفان الأقصى”، لَكَتب دواويناً تحت عنوان “يريدا”، هو الذي سبق أقرانه في استشراف صيرورة الكيان الصهيوني ونهايته ككيان عنصري، على ضوء هذا النزف السكاني الحالي من “إسرائيل” الى الخارج، أيُّ خارجٍ كان، سواء كانت العائلة “الإسرائيلية” من حَمَلة الجنسية المزدوجة وبإمكانها الرحيل بسهولة، أو كانت من شريحة “الصابرا” التي وُلِد الأب والأم منها في “إسرائيل” وتقدَّمت بطلب هجرة، وتأتي البرتغال في المرتبة الأولى لإستقبال المهاجرين اليهود من “إسرائيل”، بعد أن أعلنت حكومتها عن رغبتها باستقدامهم كمهاجرين، وألمانيا في المرتبة الثانية، وتليها فرنسا من حيث وجهة الهجرة اليهودية الجديدة إلى أوروبا.
وفي عينة إحصائية بسيطة، غادر ضمن الفترة الزمنية من 7 أكتوبر/تشرين الأول حتى 17 ديسمبر/كانون الأول الماضيين 370 ألفاً، وفق صحيفة “زمان إسرائيل” نقلاً عن “سلطة السكان والهجرة الإسرائيلية”، إلا أن “وكالة الأناضول” نقلت تقديرات محللين واقعيين لحركة مطار بن غوريون تفيد بوصول العدد إلى حدود المليون مغادر.
حملة تجارة التأشيرات في مكاتب السفريات “الإسرائيلية”، بلغت بعد عملية طوفان الأقصى حدوداً غير مسبوقة، مع عروضات لمساعدة العائلات والأفراد الراغبين بالمغادرة، عبر تقديم النصائح لهم، وحثَّهم على استصدار جوازات سفر أجنبية، وتوجيههم للعمل وكيفية الاستثمار في الدول التي سيغادرون إليها تعزيزاً لإستقرارهم فيها، وهناك إحصائيات تشير، إلى أنه مقابل عدد اليهود الذين تركوا إسرائيل منذ العام 1948 حتى العام 2022 الذي بلغ 756 ألفاً، أي بحدود عشرة آلاف في السنة، غادر خلال الفترة الممتدة من 7 تشرين الأول/أكتوبر حتى الآن، حوالي المليون، أي بمعدل خمسة آلاف يومياً وهو الرقم الذي تؤكده حالات طلب اللجوء، علماُ بأن حوالي 33% من الإسرائيليين يفكرون فعلياً بالهجرة حالياً بسبب سياسات حكومة نتنياهو، خاصة أن نصف سكان الكيان الصهيوني ما زالوا يحملون جوازات سفر بلدانهم الأصلية، وتحديداً شريحة الأشكيناز، التي قدِمَت من أميركا وبلدان أوروبا الغربية.
بالمقابل، ما يجب لفت الإنتباه إليه، أن هناك مغريات غربية للفلسطينيين بالهجرة تحت عنوان “لم شمل العائلات”، ونذكُر على سبيل المثال لا الحصر، إعلان وزير الهجرة واللاجئين والمواطَنَة الكندي “مارك ميلّر” منذ أيام، زيادة عدد الطلبات التي ستتمّ معالجتها في إطار برنامج يهدف إلى لمّ شمل فلسطينيين مع أقاربهم الكنديين، من 1000 إلى 5000، وأتت هذه الخطوة بالتزامن مع إدلاء ميلّر بشهادته أمام لجنة برلمانية حول الإجراءات التي تم اتخاذها منذ أشهر، لنقل أشخاص عالقين في مناطق النزاع في قطاع غزة والسودان إلى برّ الأمان في كندا حيث لديهم أقارب.
والخطوة الكندية لن تكون الأولى ولا الأخيرة، خاصة أن معظم الدول الغربية تعاني من مشكلة نقص “العمالة اليدوية”، وبلدان الشرق الأوسط وإفريقيا تزخر بالراغبين في الهجرة، لكن الحالة الفلسطينية استثناء، وسط نوايا التهجير الصهيونية لهم، سواء من قطاع غزة أو من الضفة الغربية لإنهاء حلمهم بدولة، ويُدرك محور المقاومة هذه النوايا، ويعتبر الصمود الشعبي في غزة والضفة الغربية أهم عناصر الإنتصار.
وإذا كان أبناء غزة محاصرون في الوقت الحاضر، فإن عائلات بكاملها في الضفة الغربية نزحت من بلدات وأحياء فلسطينية بسبب اعتداءات المستوطنين تحت أعين جيش الإحتلال، ويُخشى أن يكون الفلسطيني في الضفة مشروع “لم شمل” غربي، ما لم تتمّ حمايته مع مصدر رزقه ببندقية المقاومة.
وليس هناك وجه مقارنة في الرغبة بالهجرة بين الفلسطيني و”الإسرائيلي”، ولا في الفُرص المُتاحة أيضاً، و”الإسرائيلي” قبل العامين 2000 و 2006، كان معتاداً أن يعيش بأمان داخل الكيان، حتى عندما كانت “دولته” تحارب وتقصف وتعتدي، لكن وحدها المقاومة في لبنان أعطته الدرس الأول والثاني.. والعاشر، أن لا أمان له، لا في شارعه ولا في عمله ولا في بيته، ما دامت حكوماته العنصرية تحتل أراضي الغير وتغتصب الحقوق.
وإنتفاء وجه المقارنة في الصمود، بين “المستوطن الإسرائيلي” والمواطن الفلسطيني، هو الذي خلق معادلة القوة في مواجهة العدوان بعد عملية طوفان الأقصى، و”الإسرائيلي” الذي نزح من مستوطنات الشمال على الحدود مع لبنان ومن غلاف غزة إلى أماكن آمنة، يطالب حكومته بالعودة إلى منزله، فيما الفلسطيني بات منزله خيمة بلاستيكية نتيجة البربرية الصهيونية، ولا مشكلة لديه طالما أنه ينقلها معه من غزة الى غزة، على أرض فلسطين التي يؤمن أنها أرضه الأبدية، وهذه أيضاً معادلة نصر لصالح الشعب الفلسطيني.
ختاماً، ننهي مع المعادلة الثالثة والثابتة والأخيرة، أن الكيان الصهيوني قد استنفد كل وسائل عدوانه في القتل والتدمير والتهجير على مدى أكثر من سبعة أشهر، وزرع قطاع غزة حمماً بكل أنواع الأسلحة الأميركية من الجو والبحر والبرّ، بقنابل ذكية أو غبية لا فرق، ومسيَّراته تحوم كما الغربان في الأجواء لإصطياد الأبرياء بالآلاف، ولكن ماذا بعد، سوى أن صمود أبناء غزة ترددت أصداؤه في أنحاء العالم، واشتعلت الشوارع الشعبية ومعها المنظمات الأهلية والحقوقية في أميركا والغرب، تضامناً مع الوجع الفلسطيني وتنديداً بهمجية “الإسرائيلي”، ومخطىء مَن لا يؤمن أن عملية طوفان الأقصى قد استولدت دولة فلسطين، وأن الفلسطيني قد امتشقت مقاومته السيف والبندقية لإعادة إحياء قضيته التي كانت منسيَّة في قاموس بعض العرب، والمعركة طويلة بين هذا العدو ومحور المقاومة، حتى قيام الدولة الفلسطينية.
المصدر: بريد الموقع