أمين أبوراشد
بعد ثلاثة أسابيع من بدء عملية “طوفان الأقصى”، أي في نهاية شهر أكتوبر الماضي، قال الناطق بإسم كتائب عز الدين القسام: “زمن أسطورة الجيش الذي لا يُقهر قد ولّى، والمعركة الحالية ستكون فاصلة في تاريخ الأمة، وزمن انكسار الصهيونية قد بدأ، ولعنة “العقد الثامن” ستحلٍّ عليهم، وليرجعوا إلى توراتهم وتلمودهم ليقرأوا ذلك جيداً، ولينتظروا أوان ذلَّتهم بفارغ الصبر”.
الشعب اليهودي قارىء جيد لكتبه الدينية، لا بل هي المراجع الوحيدة التي تؤرِّخ ماضيه وتحكُم حاضره وترسم مستقبله، لدرجة أن مقولة “العقد الثامن” من عمر أية مملكة/ دولة إسرائيلية يعني نهايتها”، وفق ما ورد في كتاب التلمود، وهذه النبوءة لا يقتصر تأثيرها المُرعب على الحاخامات والمتدينين، بل على كل شرائح الشعب الإسرائيلي بمَن فيهم الطبقة السياسية، وبالتالي معظم مَن تناوبوا على رئاسة الأحزاب والحكومات.
في مقالٍ نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت، قال رئيس الحكومة الصهيونية الأسبق إيهودا باراك: “على مرّ التاريخ اليهودي لم تعمِّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين: فترة الملك داود، وفترة الحشمونائيم، وكلّ من الفترتين، كانت بداية تفككها في العقد الثامن”.
ويتناول اليهود تجربتهم عبر التاريخ، بالإشارة إلى أن الدولة اليهودية الأولى، التي أسسها الملك داود، قد بقيت موحَّدة لمدة 80 عاماً، ولكن في العام الـ81، وبسبب الصراعات الداخلية، تفككت مملكة بيت داود إلى مملكتي يهودا وإسرائيل المنفصلتين، وهكذا بدأ سقوطها، أما الدولة اليهودية الثانية فكانت مملكة الحشمونائيم في عهد الهيكل الثاني، التي بقيت لمدة 77 عاماً كمملكة موحدة وذات سيادة، ولكن في العقد الثامن من عمرها تمزَّقت بسبب الاقتتال الداخلي.
ووفق النبوءة التلمودية التي تحكُم العقل اليهودي، فإن سقوط أية مملكة إسرائيلية له أسباب داخلية، وينتج عن صراعات بين “قبائل إسرائيل”، وفي النهاية سيفعل الله ما فعله في مملكة الملك سليمان التي انهارت، وهذه النبوءة باتت هاجس رعب للإسرائيليين مع اقتراب “إسرائيل” من عقدها الثامن( 75 عاماً على احتلال فلسطين) مع تزايد حدة الخلافات والانقسام الداخلي، على خلفية النكسات والخيبات التي مُنيَت بها السلطة السياسية و”جيش الدفاع” بعد انطلاق عملية “طوفان الأقصى”، إضافة الى الخوف الوجودي المتنامي داخل أروقة الحكم في الكيان الصهيوني بعد هزيمتيّ العامين 2000 و 2006 في لبنان، والمواجهات الفاشلة مع الفلسطينيين في الداخل، رغم المذابح التي ارتكبها الجيش الصهيوني ومعه جماعات المستوطنين العنصريين بحق الشعب الفلسطيني.
لقد وجدت “إسرائيل” نفسها كياناً مهدداً، هي التي سعت لأن يكون لديها أقوى جيش في المنطقة، وحاولت تحصين نفسها عبر عمليات تطبيع مع مَن يُسمُّون أنفسهم “عرب الإعتدال”، لكن الخوف الذي يلازم شعب “إسرائيل” يبدو أنه أزلي أبدي، ويحكم حتى أداء حكوماتهم وخططهم الإستراتيجية.
وأول من اعترف بلعنة “العقد الثامن”، هو رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو الذي ادَّعى قبل 6 سنوات، أن بقاءه رئيساً للوزراء هو الضمان الوحيد لاستمرارية “إسرائيل” بعد عقدها الثامن، على خلاف الحال مع ممالك “إسرائيل” التاريخية السابقة.
ثم تلاه نفتالي بينيت، رئيس الحكومة السابق، في حملته الانتخابية عام 2020، والتي ردد فيها المشاعر نفسها، وحثَّ الناخبين اليهود على الوقوف خلف الائتلاف الذي يقوده، من أجل التغلب على لعنة العقد الثامن.
وفي عام 2022، عندما أعرب رئيس الحكومة الأسبق إيهودا باراك عن المخاوف نفسها من قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الـ80 لقيامها، استشهد “بالتاريخ اليهودي الذي يقضي بأنه لم تقم لليهود دولة أكثر من 80 عاماً، إلا في فترتين استثنائيتين بدأتا بالتفكك خلال عقدهما الثامن”، لكن أهم ما ورد في تصريحات باراك قوله: “المشروع الصهيوني هو المحاولة الثالثة في التاريخ، ووصلنا إلى العقد الثامن، ونحن كمن استحوذ عليهم الهوس، بتجاهل صارخ لتحذيرات التلمود، نعجِّل النهاية وننغمس في كراهية مجانية”، وأسهب باراك في إبداء المخاوف من الإنقسامات الداخلية، التي يعتبرها أخطر على الكيان “الإسرائيلي” من الفلسطينيين، ومن إيران و”وكلائها” في المنطقة.
مخاوف باراك لم تأتِ من العدم، في كيان مليء بالتناقضات، ومجموعات غير متجانسة من الأعراق والثقافات والإنتماءات والأيديولوجيات، ولعل أبرزها طغيان التفرقة الإتنية على الديانة اليهودية، بحيث يسيطر “الأشكيناز” ( اليهود الغربيون القادمون من أميركا وأوروبا) على كل مفاصل السياسة والاقتصاد وأسواق العمل، بينما تبدو شريحة “السفارديم” ( اليهود الشرقيون) ذليلة مُهانة بالمقارنة مع الأشكيناز، وجاءت مشكلة تجنيد الحريديم (طلاب المدارس الدينية اليهودية) مؤخراً، ليتوسع الشرخ بين الأشكيناز الذين يطالبون بتجنيد كل فئات الشعب الإسرائيلي، وبين السفارديم المحسوبة عليهم فئة الحريديم الرافضة للتجنيد بذريعة التفرُّغ لدراسة وتدريس الدين.
وإذا كانت عملية طوفان الأقصى، قد عوَّمت الخلافات والتناقضات الدينية والعرقية والسياسية في الكيان الصهيوني، ربما نتيجة صدمة 7 أكتوبر، وما تلاها من مفاعيل قدرات المقاومة الفلسطينية، مدعومةً من محور قوى المقاومة في الإقليم، والصمود المُذهل للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وانعكاس ذلك على تحركات الضفة الغربية، حيث المستوطنات الصهيونية تجاور المدن والبلدات الفلسطينية، فإن نتيجة الحرب قد تظهَّرت، ولم يعُد للشعب الفلسطيني ما يخسره من أرزاق، ومع تقديم المزيد من الشهداء من خيمة بلاستيكية، هنيئاً لهذا الشعب انتشال قضيته من سلاسل أوسلو، وهنيئاً له التعجيل بما يقرأه الصهيوني نفسه من اقتراب النهايات…
المصدر: بريد الموقع