يوم أمس الخميس، وصف المدير الجديد لوكالة الاستخبارات البريطانية (إم آي 6) حجم التهديدات الإرهابية ضد بلاده بأنه غير مسبوق، وقال “أليكس يانغر”، أن الإستخبارات البريطانية وأجهزة الأمن أحبطت 12 مخططاً إرهابياً منذ يونيو/ حزيران عام 2013، وأن بريطانيا قد تلقَّت مؤخراً تهديدات جدِّية قد تستهدفها مع بعض الدول الحليفة.
وإذا كانت بريطانيا قد هزَّها الذعر من تدفُّق الإرهاب إليها عبر اللاجئين، فقد جاء انسحابها من الإتحاد الأوروبي لِيّهزّ أركان الدول الأوروبية جميعها، لترتفع داخلها صرخات اليمين المتطرِّف الداعية الى الإنسحاب من الإتحاد ومن إتفاقية “الشينغن” وحتى من “حلف الناتو”، لعدم جدواه في مواجهة الإرهاب.
وإذا كان الإرهاب بات يحكم الحياة اليومية والسياسية في أوروبا، فإنه من الطبيعي أن يكون “الناخب الشبح” الذي يتحكَّم بأية انتخابات، سواء كانت بين اليمين المتطرِّف المذعور واليسار الذي فشِل في ضبط الحدود وحفظ الأمن الداخلي، أو كانت بين يمين متطرِّف يدعو الى الإنعزال، ويمين معتدل يحرص على الأمن الإجتماعي للنسيج الشعبي المختلط دينياً.
وقد يكون من الطبيعي أن تنتخب دول أوروبية شرقية، رؤساء يٌجاهرون بالولاء للرئيس الروسي، في حنينٍ ربما الى زمن الإتحاد السوفياتي الذي كانت هذه الدول من ضمنه، ويوم كانت في”حلف وارسو” بمواجهة “حلف الناتو”، خاصة أن الإتحاد الروسي بزعامة فلاديمير بوتين، يوحي وكأنه يستعيد أمجاد الماضي ويصنعها مجدداً، سواء عبر العلاقات مع الصين أو مجموعة “البريكس” أو مع دول “الحلف الأوراسي”، لمواجهة آحادية أميركا بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، وهذا ما يبرر ربما انتخاب كلٍّ من مولدوفا وبلغاريا في نفس اليوم الذي صادف الأحد 16 نوفمبر / تشرين الثاني 2016، رئيساً موالياً لروسيا، في ما يُشبه رغبة الإنعتاق من أوروبا والسياسات الهزيلة للإتحاد الأوروبي في مواجهة الإرهاب.
في مولدوفا، فاز “إيغور دودون” على منافسته “مايا ساندو” اقتصادية البنك الدولي السابقة والمؤيدة للغرب، مما يعكس فقدان الثقة بالزعماء الموالين للإتحاد الأوروبي، علماً بأن مولدوفا كانت قد وقعت اتفاقية سياسية وتجارية مع الاتحاد الأوروبي عام 2014 أضرَّت بعلاقاتها مع موسكو، ويسعى الحزب الاشتراكي الذي ينتمي إليه “دودون”لإلغاء هذه الإتفاقية والإنضمام إلى الإتحاد الجمركي الأوراسي.
وفي بلغاريا، فاز “رومين راديف” المدعوم من الاشتراكيين (شيوعيون سابقون) ، وهو المؤيد لرفع العقوبات الأوروبية عن موسكو، ويرى أن شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو عام 2014، هي بالأصل روسية، ويُعتبر “راديف” من أشرس المناهضين للهجرة، نتيجة خيبة أمل البلغاريين من عضوية بلادهم في الاتحاد الأوروبي، وعدم قدرة الإتحاد على التوزيع العادل للمهاجرين، خاصة أن بلغاريا دفعت الثمن الأكبر، لأنها ممرّ عبور لهم الى الدول الأوروبية التي أصابها الإرباك، وأوقفتهم على الحدود البلغارية ضمن مخيمات ليس بقدرة بلغاريا الفقيرة تحمُّل إقامتهم الطويلة على أراضيها.
إعادة التموضع على مستوى الإنتخابات الرئاسية حصلت أيضاً في فرنسا والنمسا، ما يُعتبر وكأنه بداية الصفعات للإتحاد الأوروبي المُربَك إقتصادياً والمرتعش من “فوبيا الإرهاب”، وجاء انسحاب بريطانيا من هذا الإتحاد لِيُعجِّل في تفكُّك السُبحة، وباتت كل دولة تنتخب وفق أوضاعها الداخلية وضمن حدودها بمعزلٍ عن مصالح الإتحاد.
في فرنسا حصلت الإنتخابات التمهيدية لليمين الوسط، تمهيداً لمواجهة اليمينية المتطرِّفة “مارين لوبان” في ربيع 2017، وهُزِم في هذه الإنتخابات الرئيس السابق “نيكولا ساركوزي”، المعروف بتشدُّده ضدّ المهاجرين، واختار الفرنسيون الشخصية اليمينية المعتدلة التي لا تُشبه، لا “مارين لوبان” ولا “نيكولا ساركوزي”، وهو “فرانسوا فيون”، المقرَّب من روسيا والمؤمن بالتعاون معها لمكافحة الإرهاب، لإبعاد شبح “لوبان”من جهة، ولمواجهة المرشَّح الإشتراكي الذي قد يكون رئيس الوزراء الحالي “مانويل فالس”، ويبدو أن “فرانسوا فيون” يتَّجه الى الفوز، وسيفوز معه حُكماً حليفه فلاديمير بوتين في صناديق اقتراع فرنسا وفي قلب أوروبا الغربية، وبالتالي تستعين فرنسا بروسيا في مواجهة الإرهاب ضمن سياسة يمينية معتدلة تُقصي تطرُّف “لوبان” التي قد تُدمِّر المجتمع الفرنسي والقِيَم العلمانية، وفي نفس الوقت، ينتفض الشعب الفرنسي على سياسات “هولاند” وتبعيته للدول الداعمة للإرهاب في الشرق الأوسط.
وفي النمسا منذ أيام، فاز في الإنتخابات الرئاسية مرشح حزب الخضر “ألكسندر فان دير بيلن” ( من أصول روسية)على اليميني المتطرف “نوربرت هوفر” في انتخابات الإعادة الرئاسية، بعد معاناة ستة أشهر،استمرت خلالها الإنتخابات وانتخابات الإعادة منذ مايو / أيار الماضي نتيجة الصراع بين اليمين المعتدل واليمين المتطرف الداعي الى أقصى وأقسى التدابير بحق المهاجرين، وفي حين يطرح المرشَّح الفائز “بيلن” برنامجاً يركز على حلول لمشاكل البلاد بعيداً عن التشدد، كان “هوفر”يُرحِّب بالتصويت البريطاني على الانفصال عن الاتحاد الأوروبي وبانتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ويُدغدغ مشاعر “الوطنية النمساوية”، ويطرح القلق من تجاوزات العولمة وتوافد المهاجرين الى أوروبا.
المُراقبون يتوقَّعون استمرار التداعيات الناتجة عن فوبيا الإرهاب، لتنسحب على مجمل أوروبا عند اول انتخابات في كل دولة، وإذا كانت كلٌ من بلجيكا وهولندا ستشهد انتخابات مماثلة لفرنسا والنمسا، يمين معتدل بمواجهة يمين متطرِّف، فإن سويسرا التي هي خارج الإتحاد الأوروبي تعيش الذعر المماثل، وينشط فيها اليمين المتطرف رغم أن النمسا وسويسرا لا تعانيان من اللجوء وأعداد المهاجرين ما تعانيه فرنسا وبلجيكا.
وإذا كانت بريطانيا كدولة عُظمى، لجأت الى دول الخليج تبيعها حماية عسكرية مقابل استثمارات تعوِّض عن خسائرها الناجمة عن انسحابها من الإتحاد الأوروبي، وتكرَّس هذا التبادل المبدئي في المصالح منذ أيام خلال حضور رئيسة الوزراء البريطانية “تيريزا ماي” قمَّة لمجلس التعاون الخليجي في المنامة، فإن الدول الأوروبية الأخرى باتت تبحث عن بديلٍ محتمل للإتحاد الأوروبي وحلف الناتو خاصة بعدما شكَّك الرئيس الأميركي دونالد ترامب بجدوى بقاء هذا الحلف ذي التكاليف الباهظة، وتسبَّب بإرباك الدول الأوروبية أكثر فأكثر، وباتت هذه الدول التي تحتاج الى تحالفٍ خارجي تفرضه الحاجة الى المواجهة، تجِد نفسها في أحضان روسيا، أما مَن ترغب الإنغلاق ضمن حدودها، فسوف يحكمها اليمين المتطرِّف وتتمرَّد على قوانين الإتحاد الأوروبي و”الناتو” وعلى كل موجبات العولمة تفادياً لمخاطر الإنفتاح حتى على الجوار…
المصدر: موقع المنار