تعد قضية (الوحدة والتضامن الإنساني) إحدى الهبات والنعم الإلهية الكبرى ومن الأهداف الهامة للشرائع السماوية والانجازات الإنسانية القيمة.
الوحدة والتضامن، ضرورة فطرية وعقلية وشرعية وسياسية واجتماعية، ومن أبرز مقومات المجتمع والحضارة الإنسانية. فليس أمام الإنسان من خيار غير القبول بها ليس من أجل استمرار الحياة الاجتماعية فحسب، وإنما من أجل تحقق الحياة المنشودة.
ومثل هذه النعمة الإنسانية الكبرى والهبة الشرعية العظمى، شكّلت هدفاً لكافة الأنبياء الإلهيين وائمة الدين الإسلامي وكبار المصلحين من بني الإنسان.
في ظل الظروف التي تمر بها الأمة الإسلامية من تمزق وتفرق دعا الإمام الخميني (قدس) إلى وحدة المسلمين وجمعهم فدعا إلى أن يكون هناك اسبوع للوحدة الإسلامية يمتد من (12 – 17 ربيع الأول)، فكانت هذه بادرة في لمّ شمل المسلمين وترك التناحر والتفرقة ومعرفة عدوهم الحقيقي..
الوحدة والتضامن عنصر أساسي في الاعمار والازدهار والتقدم والمضي قدماً بمسيرة التنمية الثقافية والسياسية والاقتصادية والنجاح والموفقية في مختلف ميادين الحياة.
كما أن صيانة الثورة الإسلامية واستمرارها وازدهارها واتساع دائرتها، ورسوخ قيمها، لا يتحقق إلا في ظل الوحدة والاتحاد.
إن أهمية الاتحاد والوحدة بالنسبة للإنسان ولأتباع طريق الحق، بدرجة جعلت الله تعالى يؤكد على هذا الأمر وينهى عن التفرقة: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا).
وكثيراً ما كان الإمام الخميني (قدس) يؤكد على الضرورة العقلية والشرعية للوحدة والتضامن بين المسلمين والمجتمعات الإسلامية، حتى أن سماحته كان يعتبر (الوحدة) أحياناً (واجباً إلهياً): «من الواجب علينا نحن ابناء الشعب جميعاً في اي موقع كنا.. وجوباً إلهياً، بأن نتكاتف ونتحد فيما بيننا».
هذا في وقت تعتبر التفرقة والتشتت من أبرز عوامل انحطاط المجتمعات وضعفها وتخلفها وهزيمتها. وهو أمر يمكن البرهنة عليه سواء على الصعيد التاريخي أو النظري.
وفي عصرنا الحاضر شهد العالم الإسلامي العديد من الاختلافات المدمرة نتيجة لمؤامرات الأجانب وعوامل عديدة أخرى، مما مهّد الأرضية لهجوم الغرب واعداء الأمة الإسلامية. حيث شكّلت الاختلافات والتفرقة تهديداً حقيقياً للعالم الإسلامي ولكل مجتمع من مجتمعاته.
الإمام الخميني (قدس) بصفته مفكراً وفقيهاً كبيراً، وباعتباره كان قائداً للثورة الإسلامية في إيران، أولى قضية الوحدة وابعادها المختلفة اهتماماً خاصاً، واستطاع أن يخطو خطوات عملية أساسية على طريق تحقيقها بين المجتمعات الإسلامية.
مفهوم الوحدة والاتحاد
استحوذت قضية الوحدة الاسلامية على اهتمام المسلمين على مرّ التاريخ لا سيما في العصر الحديث. فحيناً كانت الوحدة موضع اهتمام بدافع تشكيل نظام سياسي – اجتماعي واحد على صعيد العالم الإسلامي. وفي حين آخر حظيت الوحدة بالاهتمام من منطلق فكري (عقائدي وسياسي و…). واحياناً كانت الوحدة واتحاد المسلمين موضع اهتمام بدافع التصدي للمخاطر والتهديدات التي تواجه الإسلام والمسلمين، إذ أن بمقدورها إحياء روحية النضال والحمية الدينية والشهامة لدى المسلمين.
في الحقيقة ان الوحدة والاتحاد كلاهما يجسدان (التوحد)، (الشكل الواحد)، (التضامن)، (الحركة باتجاه واحد)، (التعاطي من اتجاه واحد)، من اجل الوصول الى هدف واحد. اذن الوحدة والاتحاد بمعنى انهما في مقابل مفاهيم من قبيل التكثر والتشتت والاختلاف والتفرقة ونظائرها. ومن الناحية الفلسفية يعني الوحدة في مقابل الكثرة.
وتأسيسا على هذا فان تحويل الجمع الى واحد والكثير الى الواحد والتعدد الى التوحد والجهات المختلفة الى جهة واحدة والاهداف المختلفة الى هدف واحد والطرق المتعددة الى طريق واحد، يبين مفهوم ومعنى الوحدة، وان الحركة في المجتمع البشري تكون نحو هدف واحد. بمعنى ان اي مجموعة تحمل هدفا مشتركا وانها تختار مسيرا مشتركا من اجل الوصول الى اهدافها المنشودة، وان الجميع يتحرك معا في هذا المسير المشترك، يقال بان لهذه المجموعة وحدة واتحادا، واحيانا يطلق عليه الاجتماع ايضا.
ومن هنا فان الامام الخميني(قدس) وفي معرض تطرقه الى مفهوم الوحدة ضمن اشارته الى الآية الشريفة (واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا)، يطلق على الوحدة والاتحاد مفهوم الاجتماع والكون معا في امر واحد.
مستويات الوحدة
اهتم القرآن الكريم بالوحدة على أربعة مستويات عامة:
ألف – على المستوى العالمي أو الوحدة الإنسانية: من وجهة نظر القرآن، الأفراد موجودات على درجة واحدة ومتساوية، وليس هناك أية أفضلية ذاتية لبعضهم على البعض الآخر. العرب والعجم والأبيض والأسود، الجميع متساوون عند الله وتجاه معايير الحق والحقيقة. وإذا ما كان ثمة تباين في الطبيعة والخلقة فهو من أجل التعارف وليس التمييز والاختلاف. وعليه، فالوحدة الإنسانية إنما هي وحدة طبيعية وفطرية، إذ أن ثمة ميولاً ورغبة لدى الجميع نحو الاجتماع والاتفاق تجاه نظرائهم النوعيين. وفي هذا الصدد يشير القرآن الكريم إلى موضوع الأصل الواحد لبني البشر معتبراً التباين العرقي عاملاً للتعارف: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
تشير الآية إلى ثلاث قضايا تؤكد كل واحدة منها على وحدة واتحاد النوع البشري:
1- خلق الناس من رجل واحدة وامرأة واحدة (أصل واحد).
2- الناس شعوب وقبائل لمجرد التعارف والتواصل والتقارب فيما بينهم. فمن الطبيعي أن يتحقق التواصل إثر التعارف، وان الوحدة تنشأ من اللقاء والترابط والمودة.
3- معيار الأفضلية عند الله التقوى التي هي أمر اكتسابي منوط بهمة الفرد وجهده. والتقوى تحول دون التفرقة والاختلاف والتمييز وغياب العدالة.
بيد أن الإمام الخميني كان يتطلع، بنحو ما، إلى وحدة واتحاد المستضعفين أيضاً. وبطبيعة الحال أن هذا النوع من الوحدة، ذات بعد سياسي من وجهة نظر الإمام، وينبغي الاهتمام به بدافع التصدي للقوى الظالمة وتحقيق العدالة في العالم:
“إذا أراد العالم التخلص من شرّ الفساد، لا بد من تعاضد المستضعفين جميعاً ووضع أيديهم على أيدي بعض والعمل معاً على تقويض قدرات المفسدين في بلدانهم وحكوماتهم… إذا ما أراد المستضعفون في العالم أن يحيوا حياة حرة كريمة لا بد لهم من الاتحاد والتكاتف فيما بينهم.”
ب – الوحدة بين اتباع الأديان الإلهية، أو وحدة أهل الإيمان: يتجلى هذا النوع من الوحدة في اتحاد المؤمنين بالتوحيد واتباع الأديان السماوية، والعمل معاً على طريق تحقق التوحيد: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً..).
ففي هذه الآية ثمة تأكيد على أن الكلمة التي بيننا وبينكم أنما هي كلمة واحدة، أي التوحيد والابتعاد عن الشرك والتمسك بالوحدة.
ولا يخفى أن وحدة الأديان سواء على صعيد معرفة الوجود ومن الناحية الايديولوجية، تتجلى في ضوء مبدأ التوحيد فحسب والاعتصام بحبل الله، إذ أن التمسك بالتوحيد يتبعه تحقق الوحدة بالضرورة:
“إذا ما اجتمع الأنبياء في مكان واحد، فلن يختلفوا فيما بينهم مطلقاً.. إذا ما افترضنا أن الأنبياء والأولياء اجتمعوا الآن في هذه الدنيا، فانهم لن يختلفوا فيما بينهم أبداً.”
ج – الوحدة على مستوى دار الإسلام، وحدة المسلمين أو الأمة الإسلامية: الوحدة والاتحاد والتكاتف والتآزر على هذا الصعيد، لن تكون على الخلفية الإنسانية وإنما من منطلق الإيمان بالتوحيد وأصول الدين الإسلامي الأخرى. وان الوحدة التي تحظى بتأكيد الإمام الخميني إنما هي وحدة الأمة الإسلامية. ويشير القرآن إلى هذه الوحدة قائلاً: (إن هذه امتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).
هذا ويعبر أحياناً عن الوحدة الإسلامية بـ(الأخوة الإسلامية) بمعناها الحقيقي والدقيق، حيث تدل على الألفة والتكاتف والمودة والعاطفة فضلاً عن الإيمان والاجتماع والاعتصام بحبل الله. وكان هذا النوع من الوحدة موضع تأكيد سماحة الإمام كثيراً وكان يحرص على لفت الانظار إليه مراراً وتكراراً:
«إن أحد ابرز الحلول، والذي يعد أساس كل الحلول وبوسعه اجتثاث جذور الآلام والقضاء على الفساد، يتمثل في وحدة المسلمين، بل وكافة المستضعفين والرازخين في الأسر في العالم.. ولابد من العمل على تحقيق هذه الوحدة التي أكد عليها الإسلام والقرآن الكريم، من خلال الدعوة إليها والنشاط الإعلامي الواسع في هذا المجال. اذا لم تتضامنوا وتضعوا أيديكم في أيدي بعض، وما لم تصونوا الأخوة الإسلامية، لن يتسنى لكم الصمود والثبات أمام القوى الكبرى».
د – الوحدة على مستوى البلد والشعب (الوحدة الوطنية أو وحدة فئات الشعب)
تبنى مثل هذه الوحدة على أساس المقومات الوطنية المشتركة نظير الثقافة واللغة والعرق والتاريخ، أو على أسس قومية عموماً وتتمحور حول المصالح الوطنية.
ويرى الإمام الخميني بأن أهمية هذا النوع من الوحدة تتجلى داخل البلاد في صيانة الثورة الإسلامية والمحافظة على الجمهورية الإسلامية والتحرر من قيود الاستكبار:
«ينبغي لكم أيها السادة، أنتم أيها الشباب وكافة فئات الشعب، المحافظة على السرّ الذي حقق لكم النصر ألا وهو وحدة الكلمة.. دعوا الاختلاف جانباً.. كونوا كالأخوة فيما بينكم.. تقدموا معاً وبهدف واحد ألا وهو استقرار حكومة العدل الإسلامي للجميع.. العدالة للجميع.. إنني أطلب من كافة أبناء الشعب بالحرص على صيانة وحدة الكلمة، وأن لا يدعوا هؤلاء يبثون الفرقة بين صفوفهم».
المصدر: مؤسسة الامام ولي العصر للدراسات الاسلامية