خلال الأشهر القليلة الماضية تفاقمت الخلافات بين قائد قوات «فاغنر» الروسية يفغيني بريغوجين من جهة ووزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال فاليري غيراسيموف، وتمحورت تلك الخلافات حول اتهام بريغوجين للقيادة العسكرية الروسية بالتقصير عن إمداد قوات «فاغنر» بالسلاح والعتاد العسكري المطلوب، وبالتقاعس عن تأمين التغطية النارية اللازمة لها وغياب التنسيق اللوجستي، الأمر الذي أدى بحسب زعم بريغوجين، إلى تكبّد قواته خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.
إنشغل العالم بمتابعة خبر تمرد بريغوجين، الذي اتبعه بتصريحات شديدة اللهجة وعالية النبرة، دعا فيها إلى العصيان المسلح بسبب تعرض قواته على الجبهة الروسية الأوكرانية للقصف من الجانب الروسي حسب زعمه، حتى إنه أعلن عن بدء زحف قواته نحو موسكو، وإنه سيكون لروسيا رئيس جديد غير فلاديمير بوتين، ما اضطر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الظهور عبر وسائل الإعلام، لإلقاء خطاب موجه للأمة الروسية، معتبراً أن ما حدث وما صدر عن بريغوجين هو بمنزلة الطعنة في الظهر وبمنزلة الخيانة العظمى لروسيا.
وفي السياق ذاته ورداً على تجاسر بريغوجين في إطلالاته الإعلامية ومحاولته الإيحاء بالقيام بعملية «انقلابية» على القيادة الروسية وإلقاء اللوم على القيادة العسكرية فيها، أصدر بوتين أمراً لقيادة الجيش الروسي بإخضاع القوات الروسية غير النظامية المقاتلة في أوكرانيا ومنها قوات «فاغنر» إلى سلطة وزارة الدفاع الروسية، بهدف تأمين الضمانات لها، لكن بريغوجين وسوس له الشيطان بكلام آخر، وذلك بعد سقوطه في فخ الطموح لتولي مناصب قيادية عسكرية قد تؤمن له المناصب والثروة.
ظهور الخلاف إلى العلن بين بريغوجين وهيئة الأركان الروسية، ليس بالجديد، فلقد سبق لبريغوجين أن أعلن عن وجود خلافات، وذلك بعد إعلان روسيا سيطرتها على مدينة باخموت في شرق أوكرانيا، إثر معركة ضارية استمرت 224 يوماً، خسر فيها بريغوجين ما يقارب عشرة آلاف من قوات «فاغنر»، حسب اعتراف بريغوجين نفسه.
وهنا علينا التحلي بالواقعية والاعتراف بأن قوات «فاغنر»، قامت بعمل جبّار بعد نجاحها في السيطرة على معمل «أزوف ستيل» وهو المعمل الذي يكتتز الكثير من الوثائق السرية، التي تدين أميركا والغرب لاستعماله كمختبر محصن لإنتاج أسلحة جرثومية، وإجراء تجارب عليها وتصديرها ضد البشرية والإنسانية ومنها الكورونا، هذه الوثائق جميعها أصبحت في قبضة السلطات الروسية، وهذا إن دل على شيء، فهو دليل على أن قوات «فاغنر» قدمت التضحيات الجسام لمصلحة روسيا وبوتين شخصياً، في تمكين روسيا امتلاك تلك الوثائق، وبالتالي تحقيق بعض من أهم الأهداف للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
لكن قوات «فاغنر» قررت فجأه الانسحاب من باخموت، واتخاذ قرار منفصل عن القيادة الروسية بالسيطرة على مدينة روستوف، كما اتبعتها بالإعلان عن نية بريغوجين و«فاغنر» الزحف باتجاه موسكو لمحاسبة المسؤولين فيها، الأمر الذي أشغل العالم في تفسير ما حدث في توقيت الخطوة ودلالاتها وخلفياتها، ما يوحي بوجود قطبة مخفية، تعمل القيادة الروسية حالياً على تفكيك رموزها على الرغم من وصف القيادة الروسية للحدث بالتصرف الشخصي من بريغوجين.
المؤكد أن القيادة الروسية لن تكشف عن حقيقة القطب المخفية أقله إلى حين جلاء الصورة كاملة، وذلك حرصاً منها على الترابط الداخلي، ومنعاً لنشوب حرب داخلية وربما أهلية قد تذهب بإنجازات القوات الروسية في أوكرانيا أدراج الرياح، وهذا ما يفسح المجال أمام اختراق غربي أميركي للجسم العسكري الروسي، ما يؤكد أن خطوات بريغوجين تحمل في طياتها ما هو أكبر وأعمق من ذلك، ومع بعض الوقت لا بد أن تتكشف حقيقة تلك القطبة المخفية طبقاً للظروف الروسية.
مما لا شك فيه أن الغرب عموماً وأميركا خصوصاً، جندت كل طاقاتها وأجهزتها الاستخبارية لتحقيق خرق أو منفذ يمكنها من زعزعة التماسك العسكري الروسي وبالتالي السياسي، وهذا ما عودتنا إياه أميركا فمن راقب الإعلام الأميركي والغربي مثل «سي إن إن»، «فوكس نيوز»، «واشنطن بوست»، «نيويورك تايمز»، «يورونيوز»، كلها وسائل إعلام كانت وللأمس القريب تصف قوات «فاغنر» بالإرهابية وتشيد بفرض العقوبات عليها، أما بعد الإعلان عن تمرد وانقلاب بريغوجين على الرئيس بوتين وقيادته العسكرية، تحولت كل وسائل الإعلام الأميركي والغربي إلى وصف بريغوجين برجل الحرية المنتفض على الديكتاورية في روسيا، وأن قوات «فاغنر» قوة فاعلة لتحقيق الحرية في روسيا، وهنا يتكشف لنا حقيقة دور الإعلام المخادع في الغرب وفي دولة مثل أميركا، وإمكانات تغيير صورة الإرهاب وجعله نضالاً من أجل الحرية واستعماله ضد الخصوم بين ليلة وضحاها، ما يؤكد رؤيتنا بانعدام القيم والمبادئ حتى في تفسير مفهوم الإرهاب وتطبيق القوانين في كل من أميركا والغرب.
الإعلام الأميركي الغربي وبتوجيه من أجهزة المخابرات التابعة لها، ناصرت بريغوجين وأبعدت عنه صفة الإرهاب، وأظهرته بالرجل المقدام لتحقيق الحرية، وبثت الاشاعات المغرضة بأن الرئيس بوتين غادر موسكو إلى جهة مجهولة، وأن انقسامات وانشقاقات تشهدها القوات الروسية لانضمامها إلى قوات بريغوجين، في مشهد منسوخ طبق الأصل عن مشهد الترويج الإعلامي الأميركي الغربي في بدايات المؤامرة على سورية.
ما أقدم عليه بريغوجين لم يكن عملاً فردياً كما أظهرته روسيا وذلك لأسباب داخلية، لكن بصمات أجهزة المخابرات الأميركية الغربية الإعلامية المرافقة للحدث بدت واضحة المعالم، وما إعلان وكالة «نوڤوستي» الروسية الكشف عن تحرك قامت به السفارة الأميركية في موسكو، يوم التمرد المسلح الذي نفذته مجموعة «فاغنر» بقيادة بريغوجين، إلا دليل ساطع بوجود «قطبة غربية غير مخفية» وراء كل ما جرى خلال اليومين الماضيين.
في المحصلة، سرعة الاتفاق الذي توصل إليه الرئيس البيلاروسي الكسندر لوكاشينكو، بالتنسيق مع نظيره الروسي و«الحل السحري» الذي أنزل بريغوجين وقواته عن الشجرة وصولاً إلى الانسحاب من روستوف، كلها معطيات تحتاج إلى التفكير ملياً بما حصل وكيف انتهت إليها الأمور.
علمتنا تجارب التاريخ أنه في وسط الحروب والنزاعات يصبح كل شيء مباحاً، لكن دائماً العبرة تبقى في الخواتيم، وبالتالي لا يمكن للمراقبين والباحثين الإستراتيجيين، معرفة خفايا الأحداث التي جرت في روسيا وكيفية انجلاء الموقف بهذه السرعة قبل انقشاع الغبار، واستخلاص العبر من حدث هكذا بعد معرفة كامل الحقيقة يبقى هو الأنفع والأجدى ويجعلنا أكثر منعة.
الشيء الأكيد أن أسراراً وحقائق كثيرة لن يتأخر الرئيس فلاديمير بوتين عن كشف خيوطها كاملة في المستقبل القريب، وذلك حفاظاً على معنويات القوى والقطاعات العسكرية الروسية، والأهم للحفاظ على تماسك الروح الوطنية للمجتمع الروسي، وجعله محصناً بالعقيدة وبتماسك وإيمان الحاضنة للأمة الروسية.