ليس العام الأول سوى مقدمة بالنسبة للحرب الدائرة في أوكرانيا. مقدمة لماذا؟ هنا السؤال الأهم، أو بالأحرى هنا تكثر الإجابات وتتعدد الاحتمالات، لأن اثني عشر شهراً من الصراع لم تحسم شيئاً فعلياً، لا سياسياً ولا ميدانياً ولا حتى على صعيد الوضع الاقتصادي العالمي الذي كانت أزمته من أبرز تداعيات تلك الحرب.
لكن مما لا شك فيه، فإن أحداث العام الأول، إن كان لجهة الميدان أو السياسة، رسمت مسارات لما هو آت، الذي لا يبدو أنه سيكون أقلّ سخونة مما مضى، وهذه نتيجة واضحة عكستها رسائل قادة الصراع: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي جو بايدن.
جو في كييف.. رسائل كثيرة
لنبدأ من النهاية. أسدل الستار على العام الأول من الحرب بمشهد دراماتيكي إلى حد كبير: حطّ جو فجأةً في العاصمة الأوكرانية كييف وسار في شوارعها مع حليفه فلاديمير زيلينسكي (الرئيس الأوكراني).
زيارة خاطفة وسرية، بدت استعراضية إلى حد كبير لأن الرئيس الأميركي لم يعلن فيها أي جديد، تحديداً في ما يتعلق بمطلب زيلينسكي إرسال طائرات مقاتلة، وبالرغم من وصف الأخير على مسمع بايدن المرحلة الحالية بـ “الصعبة”. كرر بايدن ما قاله في أكثر من مناسبة “سنقف (هو والناتو واوروبا) إلى جانبكم مهما طال الأمر”، وهنا تكمن إشكالية كبيرة حول حقيقة القدرة في المضي قدماً بذلك (الدعم المالي والعسكري) مهما طال الصراع الذي اتسم بالبطء خلال الفترة الماضية “وتحول إلى حرب استنزاف وحشية”، بحسب موقع “بوليتيكو”.
يدرك بايدن ذلك لكنه ربما ارتأى أن بوقوفه على حدود خصمه وعلى أرض المعركة، ولو لم يعلن جديداً، يقول إنه “قوي وممسك بزمام الأمور”، رغم سيطرة القوات الروسية على 20% من الأراضي الأوكرانية، في ظل دعم عسكري ومالي لأوكرانيا غير مسبوق وعقوبات هي الأقسى في العالم على موسكو.
حضور الرئيس الأميركي في أرض المعركة، تعرض فوراً لموجة من الانتقادات من الداخل الأميركي، تحديداً على صعيد الجمهوريين. وهنا ايضاً يحضر سؤال حول مصدر الثقة التي تحدث بها بايدن في كييف؟ وهل تحدث فعلياً بلسان حلفائه الأوروبيين الغارقين في المستنقع الأوكراني (أزمة الطاقة والتضخم المستفحلة في القارة العجوز)، والمتململين إلى حد كبير من الأعباء الملقاة على عاتقهم (الضغط الذي تعرضت له ألمانيا لتقديم دبابات ليوبارد 2 نموذجاً).
أحد مستشاري بايدن، أعرب، لـ”بوليتيكو”، عن قلقه من أن “بعض المسؤولين في الإدارة سيكونون سعداء باستخدام الكونغرس كذريعة لوقف المساعدت العسكرية، وإجبار كييف على تقليص أهدافها العسكرية، أو إجبارها على إبرام اتفاق ما”، وهو انعكاس واضح للخلافات الداخلية الأميركية. أما أوروبياً، فتظهر استطلاعات الرأي تراجعاً للتأييد الشعبي لإرسال أسلحة إلى كييف، وتململ من موضوع اللاجئين، إضافة إلى تراجع في تأييد فرض مزيد من العقوبات على روسيا، وسط مخاوف من ارتفاع نسبة التهديد النووي واندلاع حرب عالمية.
وهنا نستحضر ايضاً نقطة هامة أظهرتها الحرب في أوكرانيا، وهي تثبيت فشل واشنطن في بناء جبهة عالمية ضدّ روسيا، خارج إطار الناتو، “يعكس ذلك انحسار هيمنتها على جميع دول جنوب العالم، وفي طليعتها تلك الصاعدة، كالهند وباكستان ودول الخليج وبلدان أفريقيا وأميركا اللاتينية”، بحسب خبراء غربيين يوصفون الواقع الدولي الجديد بمقولة “العالم المفكّك”، أي فقدان الغرب سيطرته على بقيّة العالم.
لكن وبالرغم من كل ذلك، فإن الحرب مستمرة، بإرادة أميركية وغربية واضحة لا لبس فيها، في هذه المرحلة على الأقل، هذا ما أكدته زيارة بايدن، إذ إنه لا مجال للتراجع في لحظة الذروة، خصوصاً أن هذا الصراع الذي طال أمده ولا يمكن تحديد نهايته لجهة التوقيت، أو حتى وجود احتمال بتوسعه، سيعيد صياغة المشهد العالمي على صعيد التحالفات ومراكز القوى وغيرها.
24 شباط 2022.. الهجوم الكبير لكسر الطوق الغربي
مما لا شك فيه أنه عندما اعطى بوتين في 24 شباط/فبراير الضوء الأخضر لقواته ببدء المعركة، أعلن نهاية حقبة “الضغوط المحدودة والتحذيرية”، إلى الهجوم الكبير الذي يهدف إلى حسم مرحلة طويلة من التحركات الغربية المعادية تجاه موسكو، من جورجيا إلى قلب النظام في أوكرانيا عام 2014، إلى توسع الناتو شرقاً بهدف تطويقها.
لا مجال للتراجع بالنسبة للرئيس الروسي. سيعني ذلك تطويقه لأمد بعيد.
أنهى الأخير العام الأول من معركته الحافلة بالضغوطات الاقتصادية والتقدم والتراجع في الميدان، بتأرجح في ميزان الربح والخسارة. لكن لدى موسكو العديد من الأوراق الرابحة، من ورقة الغاز والنفط إلى ورقة الغذاء (تجديد صفقة الحبوب)، وصولاً إلى الورقة النووية التي أشهرها بوتين بوجه بايدن في أكثر من مناسبة، آخرها في خطابه الشهير أمام البرلمان الروسي بإعلان تعليق بلاده المشاركة في معاهدة “نيو ستارت”. ويرى خبراء روس أن هذه الورقة هي الأنجع في سياق الردع وليس التصعيد.
بهذه الأوراق يكمل فلاديمير حربه، مستنداً بحسب خبراء، إلى عدد من النتائج الهامة التي حققتها:
أولاً، إضافة 4 مناطق جديدة ومتكاملة تاريخيا إلى روسيا يبلغ تعداد سكانها عدة ملايين وبمساحة كبيرة (100 ألف كلم مربع).
ثانياً، تعزيز الأمن الإستراتيجي لروسيا بسبب بحر آزوف الداخلي، وتدمير مختبرات البنتاغون البيولوجية في أوكرانيا.
ثالثاً، تفعيل البناء العسكري الروسي وتعبئة الصناعة الدفاعية، مع الأخذ بعين الاعتبار الفترة الطويلة الحتمية للصراع مع الولايات المتحدة وحلفائها.
رابعاً، تدمير ترسانات الناتو العسكرية في مسرح العمليات الأوكرانية.
خامساً، إعادة توجيه العلاقات الاقتصادية ونمو المكانة الدولية لروسيا، والتمكن من زعزعة استقرار الاقتصاد الغربي كنتيجة للعقوبات ضد موسكو.
مع بداية العام الثاني للصراع، هل سيبقى “ميزان الربح والخسارة” دائم الحركة في كلا الاتجاهين؟ أم سنذهب إلى تطورات أكثر حسماً، مما يرسم مآلات أوضح. من المؤكد أنه لا مفر من المفاوضات، لكنها تبدو بعيدة بحسابات كل أطراف الصراع: الكلمة الأولى للميدان.
المصدر: موقع المنار