تشهد العلاقة بين طهران والجزائر توافقا تجاه الكثير من الأحداث الدولية، وتطابقا في قضايا أخرى، ويرجع ذلك لمنهجهما الثابت والرافض للهيمنة والإستبداد، فما يربط هذين البلدين هو رفع شعار الثورة، فكلاهما قاد ثورة مجيدة (الثورة التحريرية ضد المستعمر الفرنسي بالنسبة للجزائر والثورة الإسلامية الإيرانية ضد نظام الشاه)، ما يجعلهما عازمين على مواجهة الاستعمار والإمبريالية العالمية، ومتوافقين في تكوينهما وبنية سياستيهما الاستراتيجية. كما يعود هذا التقارب إلى تاريخٍ طويل في العلاقة الثنائية، إذ تعد إيران من أوائل الدول التي اعترفت باستقلال الجزائر عن الاحتلال الفرنسي سنة 1962 م، وتباعا، تم فتح سفارة لها بذلك البلد سنة 1963. تلت هذه الخطوة فتح سفارة الجزائر بإيران سنة 1966 م.
وتعتبر العلاقات الجزائرية الإيرانية من العلاقات النوعية التي ستشهد إزدهارا لمبادئهما المعادية للهيمنة والإستبداد، فمرجعيتهما السيادية وحرصهما على الوحدة سيقفان سدا منيعا بوجه الإملاءات الغربية. وتجدر الإشارة إلى أن نظرة الإيرانيين للجزائر والجزائريين إيجابية مئة بالمئة خلافا لما يشيعه المغرضون، وهم حريصون كل الحرص على تطوير علاقاتهم مع أشقائهم الجزائريين. فبعد انتصار ثورة الجزائر المجيدة، عمت الإحتفالات في مساجد إيران، كمسجد هدايات تحت إمامة السيد محمود طالقاني، والذي كان آنذاك الرجل الثاني بعد الإمام الخميني، حيث عمت الهتافات ك “الجزائر بيروز” أي “الجزائر تنتصر”.
وقبل إنتصارها، حظيت هذه الثورة المجيدة ضد المستعمر الفرنسي بدعم من قبل أبناء الشعب الإيراني، كالمفكر الإيراني الكبير الدكتور علي شريعتي، حيث حمل لواء مناهضة الاستعمار الفرنسي وهو في قلب فرنسا، واصطف إلى جانب ثورة الشعب الجزائري، ودافع عنه وسجن بسبب ذلك، وموقفه كان مدعوما بموقف شعبي في إيران يناصر هذه الثورة.
لم يخف شريعتي تعاطفه مع نضال الشعب الجزائري وجبهة التحرير الوطني، حيث أضحى على إتصال دائم مع أعضائها، بعد أن تعرف على أحدهم بمحض الصدفة في صالون لتصفيف الشعر. قام مصفف الشعر، وهو عضو في جبهة التحرير الوطني، بضمه إلى شبكة الجبهة بباريس، والتي استخدمت فيما بعد غرفته للتنسيق حتى تتماهى عن الأنظار الفرنسية، كما كان السيد علي على اتصال وثيق ودائم بالمناضلين الجزائريين، والأجانب الذين تعاطفوا مع الثورة أمثال الطبيب فرانز عمر فانون ((Frantz Fanon، وشارك معهم في المظاهرات لصالح القضية الجزائرية سنة 1959م، وبذلك تلاحمت شخصيته وجدانيا مع الثورة الجزائرية وانتقلت من دائرة النّظر إلى دائرة الفعل، وأبصرت في هذه الثورة وعيا ثوريا نوعيا تصنعه معجزة الإيمان والوعي، تلك المعجزة التي جسّدتها الثورة الجزائرية في تصدّيها للهيمنة الإمبريالية الفرنسية، وما قدّمته من دروس في فن الثورة وتكوين الوعي والمحافظة على الذّات الثقافية، وروحها الثوري الذي انعكس في أبحاث شخصيات فكرية وثورية من طراز رفيع، جعل من أفقها أفقا عالميا؛ ومن أفكارها جذوة للحركة والتأثير في النفس الخاضعة خاصة للقوى الاستعمارية الإمبريالية.
كان للدكتور شريعتي ولا يزال تأثير كبير في المجتمع الجزائري، وما زالت أقواله تتردد على ألسنة الجزائريين، خاصة النخب منهم، حيث يرتبط اسمه بالمفكر والكاتب والفيلسوف الجزائري مالك بن نبي لأن كلاهما طالب بشن ثورة ضد الاستبداد الخارجي والعمل على إصلاح النفس.
ومن جهتهم، طالب كبار العلماء الإيرانيين من أبناء الشعب الإيراني أن يدعموا ويساعدوا الشعب الجزائري بكل الطرق الممكنة، وقد تم جمع الكثير من المساعدات المالية وأوصلوها إلى أبناء الجزائر عبر وسطاء، واستمر هذا الدعم الشعبي حتى انتصار الثورة الجزائرية، وبعد الاستقلال، قام النظام الملكي في إيران بدعم النظام الجديد في الجزائر رغم اختلافه مبدئيا مع الكثير من أصول الثورة الجزائرية لكنه كان مرغما على ذلك بسبب الموقف الشعبي الداعم لأبناء الجزائر، وأصبحت إيران من أولى البلدان التي اعترفت باستقلال الجزائر.
ومن أهم الخطب التي ألقاها الإمام الخميني مع عودته من باريس إلى طهران، تلك التي طلب فيها من الإيرانيين الاقتداء بالثورة الجزائرية التي ربطت بين الجهاد الأصغر ضد الاستعمار، والجهاد الأكبر ضد التخلف، واستقبل الإمام الخميني في أولى أيام الثورة الإيرانية أعلام الجزائر، من بينهم المفكرين الكبيرين المرحومين نايت بلقاسم وأحمد حماني، حيث أبان التلفزيون الجزائري صورهما وهما يجلسان على الأرض في مكان إقامة قائد الثورة الإيرانية مع الإمام الخميني.
وبالعودة إلى العلاقات الثنائية، تُوجت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بالوساطة الجزائرية في عهد الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين سنة 1975 م بين العراق وإيران في الصراع الحدودي بشأن شط العرب، وعرف ذلك باتفاقية الجزائر. ونجحت الوساطة الجزائرية أيضا في إيجاد حلٍ سلميٍ للأزمة الإيرانية الأمريكية سنة 1980م، كما أن إيقاف حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، سنة 1988، كان برعاية جزائرية بحتة.
قام الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد بزيارة إلى إيران سنة 1982 م، أسفر عنها توقيع العديد من الإتفاقات الثنائية. شهدت العلاقات فيما بعد مدا وجزرا بسبب العشرية السوداء بالبلد، وما تخللها من ضبابية، إلا أنه سرعان ما انقشع ضباب الخلاف بين البلدين لتعود العلاقات إلى سابق عهدها، وتزدهر بعد وصول الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة إلى سدة الحكم سنة 1999 م في دلالة قوية للاحترام الذي تكنه الجزائر للعمق الشعبي والثقافي لهذه العلاقة؛ فالجزائريون يثمنون جهود إيران الحثيثة ومواقفها الوطنية المؤيدة للشعوب المستضعفة، خاصة ما تعلق بقضية فلسطين، فضلا على أن تاريخ البلدين وحجمهما الإقليمي ورهانات الواقع والجغرافيا، لم تكن لتسمح باستمرار القطيعة بين ثقلين لهما وزنهما، وقبل ذلك رغبتهما في استئناف فرص التعاون والشراكة بينهما. فمع صعود الرئيس السابق الراحل عبد العزيز بوتفليقة وبروز الفيلسوف محمد خاتمي منذ مطلع الألفية الثانية، أعيدت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في سبتمبر/أيلول 2000 وتم تبادل السفراء في أكتوبر/تشرين الأول 2001 م لتنطلق العلاقات بشكل سريع، ترجمتها الزيارات المتبادلة على أعلى مستوى بين الطرفين، وكرّستها المبادلات والاتفاقيات الثنائية في عديد القطاعات. هذا الوضع الاستدراكي في علاقات الجزائر وإيران، نجم عنه مباركة طهران لمشروع المصالحة الوطنية في الجزائر، كما دافعت هذه الأخيرة عن حق طهران في امتلاك التكنولوجيا النووية السلمية.
أما بخصوص الشراكة الاقتصادية، فقد عُقد أول اجتماع للجنة الاقتصادية المشتركة في يناير (كانون الثاني) 2003 م في الجزائر، ووقّع خلالها البلدان عدّة مذكرات تفاهم، شملت العديد من المجالات، واستمرت اللجنة في الدفع بالعلاقات الاقتصادية بين البلدين إلى الأمام، ففي فبراير (شباط) من سنة 2015م، وقّع البلدان على خمس اتفاقيات تعاون في مختلف المجالات الاقتصادية لتعزيز الشراكة بين البلدين. وخلال اجتماع اللجنة نهاية سنة 2015م، أعرب نائب الرئيس الإيراني آنذاك جهانغيري عن أن الجزائر توجد ضمن قائمة أهم الدول التي تنوي إيران تقوية علاقاتها الإقتصادية معها، وأن الشركات الإيرانية مستعدة للاستثمار في الجزائر، وهو ما دعا إليه كذلك الوزير الأول الجزائري آنذاك عبد المالك سلال، الذي طالب بإقامة شركات مختلطة بين الطرفين لأجل الدخول إلى السوق الإفريقية، داعيًا رجال الأعمال الإيرانيين إلى الاستثمار في الجزائر، ليوقع البلدان في مايو (أيّار) 2016 م على 19 مذكرة تفاهم، 15 منها في مجال صناعة السيارات وقطع الغيار، ناهيك عن مجالات الصحة الحيوانية والمالية والتعليم العالي والصناعات الصغيرة والتعاون القضائي وتطوير النشاط الاقتصادي بالمناطق الصناعية والاستثمار المشترك في قطاع البتروكيمياويات. وفي السنوات الأخيرة، فاق عدد الإتفاقيات المبرمة 70 إتفاقية، تغطي مختلف مجالات الحياة. كما تمتلك طهران استثمارات بالجزائر، أهمها مصنع للسيارات للمجموعة الصناعية إيران خودرو، والمعروفة باسم “IKCO”.
وبخصوص التعاون الثقافي، لم تتخلف الجزائر وإيران في بعث وإقامة تعاون دائم بينهما، حيث قاما، في هذا الإطار، بالتوقيع على إتفاقية التعاون الثقافي يوم 25 ديسمبر 2004، تجسدت على أرض الواقع بتنظيم وإقامة عدة تظاهرات ثقافية في كلا البلدين. ومنه، يحظى التعاون الثقافي بتقدير كبير من الجانبين. فقبيل جائحة كورونا أقيم معرض ثقافي جزائري في مركز ملال الثقافي بهدف التعريف بعادات وتقاليد المجتمع الجزائري.
تم عرض أعمال فنية بصرية وتقليدية (ألوان مائية، طلاء زيتي، منمنمات، رسم على الرمال، ألواح خزفية، إلخ) والحرف اليدوية لتمكين الإيرانيين من رصد الجوانب التاريخية ونمط حياة الشعب الجزائري. قدّمت هذه الفعالية صورة وافية عن عراقة وتميز الموروث الحضاري والثقافي الجزائري وتألق مُبدعيه في مختلف الأشكال الفنية والحرفية. ومن ناحية أخرى، أُقيمت، تحت إشراف السفارة الإيرانية بالجزائر، معارض ثقافية إيرانية مختلفة في الجزائر لتعريف الجزائريين بالثقافة والفنون الإيرانية، كما أقيم سنة 2019 م أسبوع الفيلم الإيراني في الجزائر العاصمة بهدف التعريف بالثقافة والسينما الإيرانية، وكان مصحوبا بورشات متنوعة عن السينما الإيرانية تحت إشراف مخرجين ومنتجين إيرانيين بارزين، كما شاركت إيران مؤخرا في المهرجان الثقافي الدولي للمنمنمات وفنون الزخرفة في طبعته 12 والذي أقيم بمدينة تلمسان تحت شعار جسور ذهبية. وعقب إختتام المهرجان، تم الإتفاق بين محافظ المهرجان السيدة قادرين سامية والأستاذ محسن أقاميري، أستاذ متخصص في فن الزخرفة من جامعة طهران، على تنظيم دورات افتراضية لتعليم الزخرفة وفن التذهيب ابتداءا من 01ديسمبر 2022 م لفائدة الفنانين الجزائريين المشاركين في المهرجان بهدف تطوير مهاراتهم، حيث تضم المجموعة أزيد من عشرين فنانا.
كما تربط الجزائر وإيران، منذ زيارة وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي آنذاك رضا صالحي أميري للجزائر في آذار / مارس 2017 م، اتفاقية تعاون بين هيئة فارابي الإيرانية للسينما والمركز الجزائري للسينما والسمعي البصري. يرمي هذا الاتفاق إلى تعزيز الإنتاج السينمائي المشترك والتعاون في مختلف المجالات الفنية بين البلدين.
وفي وقت سابق، أشاد وزير الثقافة الجزائري الأسبق عز الدين ميهوبي بالسينما الإيرانية ومكانتها العالمية والمساعي المبذولة لتقوية التعاون السينمائي بين البلدين، مشيرا إلى الجهود الجبارة المبذولة من الجانب الإيراني في إخراج الفيلم التاريخي “أحمد باي” في أبهى حلة، حيث قدّم الكادر الإيراني، خلال تلك التجربة، دورات تدريبية للجزائريين، شملت حصصا تعليمية عن المؤثرات الخاصة والأزياء وكيفية إدراج الصور والمكياج. كما تم تأطير 27 مصمم أزياء جزائري من قبل متخصصين إيرانيين، بينما قام متخصصون إيرانيون في مشاهد الحرب والمؤثرات الخاصة لـ “أحمد باي” بتدريب ضابطين من الجيش الجزائري (الجيش الوطني الشعبي الجزائري). تعد هذه التجربة الثانية من نوعها بين البلدين في مجال السينما بعد استعانة الجزائر بخبراء إيرانيين في التجميل والإكسسوارات بقيادة السيدة سودابة خسروي في فيلم ابن باديس للمخرج السوري باسل الخطيب، وقد حظيت هذه التجربة بإعجاب الجزائريين الذين باركوا هذه الخطوة، ونادوا بمزيد من التعاون الثنائي.
وفي سياق متصل، يقدم حاليا القسم الثقافي للسفارة الإيرانية بالجزائر برامج ودورات تعليمية إفتراضية للغة الفارسية، يشارك فيها جمع من الشباب من مختلف المناطق الجزائرية، في انتظار تفعيل مشروع تعليم اللغة الفارسية كتخصص قائم بذاته في الجامعات الجزائرية، حيث تقدمت جامعة الجزائر 2 بمشروع إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، من أجل اعتماد تخصص للأدب الفارسي في أعقاب مشاورات أجرتها مع السفارة الإيرانية بالجزائر من أجل تدريس اللغة الفارسية وآدابها بالجزائر في إطار انفتاح الجامعات الجزائرية على لغات الشرق بقدر المساواة مع انفتاحها على اللغات الغربية.
وأجرى، الشهر المنصرم، وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، إتصالا هاتفيا مع نظيره الجزائري، رمطان لعمامرة، تناول فيه العلاقات الثنائية والتطورات الجارية في المنطقة والعالم الإسلامي، فضلا عن التدنيس الأخير للمسجد الأقصى. وقيّم أمير عبداللهيان، في هذا الاتصال، العلاقات القائمة بين البلدين بالجيدة والمتنامية، معلنا عن استعداد إيران لعقد اللجنة الإقتصادية المشتركة بين البلدين في المستقبل القريب. من جهته، أعلن الوزير رمطان لعمامرة عن استعداده لإجراء مشاورات سياسية بين البلدين في المستقبل القريب، في حين نقل تحيات الرئيس تبون إلى كبار المسؤولين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، موجها دعوة للوزير الإيراني لزيارة الجزائر.
وكان السيد تبون قد التقى، في شباط/فبراير الماضي، في العاصمة القطرية الدوحة، نظيره الإيراني على هامش القمة السادسة للدول المصدرة للغاز المنعقدة في قطر. كما أوفد الرئيس تبون رئيس الحكومة أيمن عبد الرحمن إلى طهران في آب/أغسطس 2021، لحضور مراسيم تنصيب رئيسي رئيساً لإيران.
وفي سياق متصل، التقى وزير الخارجية لعمامرة، في أواخر سنة 2021، نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، حيث تباحث الوزيران سبل تعزيز العلاقات بين البلدين، كما تحادث الطرفان حول الإمكانيات المتاحة من الجانبين لترقية التعاون الاقتصادي، إضافة إلى القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك.
هذا وكان وزير الخارجية الايراني حسين أمير عبداللهيان قد دعا أيضا في شهر نوفمبر الماضي خلال استقباله مبعوث الجزائر الخاص بشؤون الأمن الدولي “أحمد بن يمينة” في طهران، إلى توسيع التعاون الإيراني الجزائري، بما يرقى إلى مستوى العلاقات السياسية القائمة بين البلدين.
واعتبر وزير الخارجية الإيراني في ذلك اللقاء مواقف القادة السياسيين في إيران والجزائر، متقاربة حيال العديد من القضايا؛ مؤكدا على ضرورة تطوير التعاون العلمي والسياحي والبرلماني، في ضوء العلاقات السياسية الرفيعة بين البلدين.
وفي إطار إثراء رصيد العلاقات الجزائرية الإيرانية، تم، في شهر فيفري المنصرم، بمقر المجلس الشعبي الوطني، تنصيب المجموعة البرلمانية للصداقة الجزائرية-الإيرانية، بغية تعزيز الروابط البرلمانية، ومد جسور التواصل والتعاون الثنائي بين البلدين.
المصدر: موقع المنار