نص الخطبة
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثمّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثمّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) الانفال: 36-37
جاء في سبب نزول هذه الآية قولان:
الاول: هو ما جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي وكثير من التفاسير الأُخرى، من أنّ الآية نزلت في معركة بدر، وما انفقه المشركون من أهل مكّة من أموال للتحريض على قتال المسلمين وإسقاط الاسلام وابعاد الناس عن طريق الحق، حيث جمعوا أموالا كثيرة لدعم الحرب على المسلمين وتحقيق اهدافهم في القضاء على الاسلام والمسلمين ودولتهم في المدينة ، إلاّ أنّهم خابوا وفشلوا في تلك المعركة وقتل العديد من رموزهم فيها، وسقطت كل مخططاتهم ورهاناتهم ، وذهبت أموالهم هباءا بلا فائدة، وكان ما انفقوه وبالا وحسرة عليهم.
والقول الثاني: إنّ الآية نزلت في ما بذله أبوسفيان من اموال لألفي مقاتل “مرتزق” في معركة أحد .
لكن بما ان الآية واقعة في سياق الآيات النازلة في معركة بدر، فإنّ الرأي الأوّل في شأن نزولها يبدو انه أقرب للصحة.
ومهما كان سبب نزول الآية، فان مفهومها مفهوم عام وشامل يحمل في معناه كلّ ما ينفقه أعداء الحق من أموال لتخلي الناس عن الحق ومنعهم سلوك طريق الله ولتحقيق اهدافهم الخبيثة والنيل من الاسلام والمسلمين، وهذا المال الذي ينفق في مثل هذه المجالات هو ما يعبر عنه بالمال السياسي من اجل تحقيق اهداف وغايات سياسية وغير سياسية. (إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله).
الاعداء والخصوم يستخدمون كل الوسائل ليصدوا عن سبيل الله وليبعدوا الناس عن الحق،وليتخلى الناس عن خياراتهم الصحيحة، يستخدمون الحصار والعقوبات والضغوط المعيشية والاعلام وشراء ذمم الناس بالمال وإغرائهم بالسلطة والمواقع والمناصب وغير ذلك، لكنهم يعتمدون على عنصر المال كأمر اساسي في تحقيق مخططاتهم واهدافهم المشبوهة والخبيثة، وينفقون اموالا طائلة لتغيير مزاج الناس والتأثير في خياراتهم ، أملا في الانتصار والوصول الى ما يريدون، ولكن الله سبحانه وتعالى يكشف لنا عن خيبات الامل التي تصيبهم، والنتائج السلبية التي يحصلون عليها، لان الجهود التي بذلوها والاموال التي انفقوها لن تحقق لهم الفوز والنصر ولن يكون لها اي جدوى او مردود ايجابي عليهم، بل ستتحول الى حسرات وهزائم وفشل وخيبات امل.(فسينفقونها ثمّ تكون عليهم حسرة ثمّ يغلبون).
ولا يصابون بالحسرة والهزيمة في الدنيا فقط، بل هم كذلك في الآخرة أيضاً (والذين كفروا إلى جهنم يحشرون).
وهنا لا بد من الالتفات الى عدة امور مستوحاة من الآية:
اولا: ان الألم والحسرة التي يصاب بها “هؤلاء” نتيجة خسارتهم لأموالهم من دون ان يحصلوا على اي نتيجة مما أنفقوه هو نوع من جزائهم الدنيوي وشكل من اشكال العقاب الذي ينالونه في الدنيا على أعمالهم ومؤامراتهم ، أمّا الجزاء الآخر الذي ينالونه في الدنيا ايضا، فهو فشل اهدافهم ومخططاتهم، لأنّ الذين يواجهون ويقاتلون وهم متعلقون بالأموال ومن اجل الحصول على حفنة من الاموال والثروات والمواقع والمناصب الزائلة لا يستطيعون مواجهة من يقاوم ويقاتل ويواجه من أجل المبادىء والقيم والأهداف المقدسة والقضايا المحقة.
المرتزقة والذين يبيعون ويرهنون انفسهم وواوطانهم وشعوبهم من اجل استرضاء الاخرين والحصول على مال او سلطة او منفعة خاصة هم اعجز من ان يحققوا اهدافهم في مواجهة اهل الايمان والبصيرة والصدق او ان ينتصروا في معركة الحق والباطل.
وقد برهنت الاحداث والوقائع في الماضي والحاضر على أن الدول المستكبرة التي تُغري ادواتها وازلامَها بالمال والسلطة والمواقع السياسية وغيرها، غالباً ما تصاب بالهزيمة والفشل والاحباط والخزي بوجه المستضعفين الذين يقاومون عن إيمان وعقيدة وبصيرة ويقاتلون ويواجهون دفاعا عن قضاياهم وقضايا اوطانهم وشعوبهم المحقة والعادلة.
اذن الجزاء الاول الذي يناله من ينفق المال للانقلاب على الحق هو الالم والحسرة والثاني هو الهزيمة وفشل اهدافه وعدم تحقيق ما يريد ، وبالإِضافة إِلى هذين الجزاءين هناك جزاء ثالث ينتظرهم يوم القيامة، وهو “الغضب الإِلهي”.
ثانيا: الذين يستخدمون المال من اجل تحقيق أهدافهم وتضليل الناس وصدهم عن الحق، هم لا يقدمون انفسهم بصورة من يريد شراء الذمم والاصوات ومن يريد النفوذ والهيمنة والتاثير على الجهات التي تتلقى المساعدات، وانما يقدمون انفسهم بصورة الناس الطيبين والخيرين وانهم مصدر للخير والعطاء وانهم انما يدفعون الاموال لمساعدة الناس والجمعيات والدولة ، وهم ايضا يقدمون الدعم والمساعدة بأشكال متعددة، تارة على شكل مساعدات مالية نقدية، وتارة على شكل بناء مستشفيات ومراكز صحية، وتارة على شكل المساهمة في مشاريع تنموية، آبار مياه سدود طرقات الخ، وتارة رابعة على شكل دعم علمي او تعليمي او تعاون الثقافي، ومرّة يأتون في ثوب وفود مرتزقة يريدون المساعدة لكن لديهم اهداف خبيثة.
كل هذه الاشكال والاساليب كانت تتبع ولا زالت تتبع من الاعداء والادوات من اجل تحقيق اهداف سياسية او ثقافية او امنية او غير ذلك، لكن الهدف النهائي منها واحد وهو الهيمنة والسيطرة والنفوذ والتأثير في الجهات التي تتلقى المساعدة وشراء الذمم والمواقف وايجاد وتشكيل الجماعات والادوات والازلام والمرتزقة ودفعهم لمواجهة الحق واهل الحق ، وهذا ما حصل في معركة بدر حيث ان المشركين اشتروا الناس باموالهم ودفعوا اموالا لمقاتلين مرتزقة ودفعوهم لمواجهة عسكرية مع المسلمين والمؤمنين في معركة غير محسوبة النتائج، فوقف المسلمون بكل عزم وقوة وثبات وصفا واحدا في هذه المعركة وقاتلوا قتال الابطال في ظروف غير متكافئة فأحبطوا اهداف العدو، وتبخرت كل الاموال التي انفقتها قريش على هذه المعركة واصبحت وبالا وحسرة عليهم .
في لبنان المال السياسي يحضر في كثير من الاستحقاقات السياسية ليفعل فعله في علاقات ومواقف القوى السياسية وفي توجهات الرأي العام خصوصا حيال قضايا اساسية يحتاج الاعداء والخصوم فيها الى تأييد اوسع شريحة ممكنة من الشعب اللبناني
استخدم المال السياسي في لبنان من قبل الامريكي في تحشيد بعض القوى السياسية والوسائل الاعلامية وجمعيات المجتمع المدني بوجه حزب الله وفي محاولات تشويه صورة حزب الله ووفي التأثير على الشباب اللبناني لابعادهم عن المقاومة التي شكلت عنصر جذب للشباب من خلال ادائها وصدقها واخلاصها ودفاعها عن لبنان وحمايتها للشعب اللبناني.
السفير الامريكي الاسبق في لبنان جيفري فيلتمان وقي شهادة علنية له امام الكونغرسفي العام 2006 قال بالحرف الواحد ان الولايات المتحدة انفقت خمسمائة مليون دولار على حرب اعلامية في لبنان تسعى لتشويه صورة حزب الله والحد من جاذبيته لدى الشباب اللبناني اي لابعاد الشباب عن المقاومة.
ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قال قبل سنتين لمسؤول عربي كبير دفعنا عشرين مليار دولار بعد عام 2005 في لبنان ولم نحصل على نتيجة وطبعا هم انفقوا هذه الاموال على ازلامهم لمواجهة حزب الله واضعافه والنيل من حضوره القوي في لبنان
في كل الدورات الانتخابية التي جرت للمجلس النيابي بعد الطائف من العام 92 وصولا الى الانتخابات النيابية الاخيرة في 15 ايار 2022 كان المال السياسي والانتخابي السلاح الابرز لتحقيق اهداف سياسية
في المعركة الانتخابية الاخيرة تم استخدام المال السياسي بقوة لدعم ادوات اميركا والسعودية ولتشويه صورة حزب الله واسقاطه سياسيا والتأثير في بيئته وشعبيته، حيث انفقوا مئات ملايين الدولارات على الاعلام والاعلان والحملات الانتخابية لجماعاتهم وعلى شراء الاصوات لتحقيق ذلك.
في هذه المعركة الانتخابية كان مطلوب الاعداء والخصوم النيل من قوة حزب الله السياسية والشعبية، وانقلاب جمهور المقاومة على المقاومة، وخفض نسبة التصويت في بيئتها الى ادنى مستوى ليقال ان شعبيتها تراجعت ، وكل الضغوط التي مورست على اللبنانيين خلال الفترة الماضية من حصار وعقوبات وضغوط معيشية وحملات اعلامية وسياسية وتضليل ودفع اموال كان لاجل تحقيق هذه الاهداف ولكنهم فشلوا في تحقيقها، وكانت النتيجة ان حزب الله حافظ مع حلفائه على قوة وازنة في المجلس النيابي الجديد، وكشفت الارقام ان نسبة التصويت في بيئة المقاومة هي أعلى نسبة تصويت في لبنان، وان حزب الله هو الاكثر شعبية على الاطلاق بحصول نوابه على اكثر من 350 الف صوت تفضيلي بزيادة الاف الاصوات عن عدد الاصوات التي حصل عليها في العام 2018.
ولذلك فان أبلغ ما في نتائج الانتخابات، انها كشفت قوة وثبات واتساع شعبية المقاومة التي راهن البعض على تراجعها، وأظهرت تراجع وضعف بعض المراهنين على تراجعها . لانه من المفارقات التي حصلت، ان بعض الذين عملوا وراهنوا على تراجع شعبية المقاومة سقطت لوائحهم في هذه الانتخابات ولم يحصلوا سوى على نسب متدنية من الاصوات والنواب، بينما نجحت لوائح المقاومة في الحصول على أعلى نسبة اصوات شعبية، وحققت فوزا لكل نوابها وزادت كتلة الوفاء للمقاومة نائبين فاصبحت 15 نائبا بعد ان كانت 13 نائبا في الدورة السابقة.
نحن مرتاحون للنتائج ومطمئنون لمقاومتنا وزادت ثقتنا بشعبيتنا وشعبية حلفائنا والشيء الوحيد المقلق بالنسبة لنا هو الهم المعيشي والاقتصادي، ولذلك يجب ان تكون أولوية المجلس النيابي الجديد والقوى السياسية التفرغ لمعالجة قضايا الناس والتخفيف من معاناتهم وعدم الذهاب نحو سجالات عقيمة لا توصل الى نتيجة او التلهي بشعارات جوفاء لا تلامس ولا تعالج الاسباب الحقيقية للازمة التي يعيشها البلد.
المصدر: بريد الموقع