في دراسة بعنوان “نظام البحرين الجديد” لمعهد دول الخليج العربية في واشنطن، حاول الباحثان الاميركيان كريستين ديوان سميث ومايكل أصفهاني استعراض الإجراءات الرسمية المتسارعة التي شهدتها البحرين مؤخراً، لم يكن جديداً أن يتوصل سميث وأصفهاني إلى أن سياسة القمع البحرينية “تعكس نموذج الحسم والحزم الإقليمي اللّذين تُرَوج لهما القيادة السّعودية الجديدة”، إذ أن الدور السعودي كان حاضراً في الداخل البحريني منذ أن قرر البحرينيون أن يطالبوا بحقوقهم. أكثر من كان ملفتاً في ما كتبه الباحثان الأجنبيان، هو التساؤل التالي: “ما الذي دفع الحكومة إلى توجيه هذه الضّربة القاضية إلى معارضة مهزومة بالفعل؟”
… هل هي “معارضة مهزومة” بالفعل؟
أكثر من خمس سنوات طواها البحرينيون على حراكهم الذي يُعد أرقى حراكاً شعبياً في فورة التقلبات السياسية التي شهدتها المنطقة والعالم. لم يتمكن البحرينيون طيلة هذه السنوات من تحقيق أي إنجاز سياسي على مستوى المشاركة، ولم يتمكن شعب المملكة من جر السلطة إلى طاولة حوار جاد لطالما طالبت بها المعارضة لوضع حد للأزمة المفتوحة التي تشل المملكة.
ولكن هل يكفي ذلك للحكم بأن المعارضة البحرينية مهزومة؟
عندما وقف البحرينيون في ساحات 14 فبراير، لم تقف معهم كاميرات “الثورات العربية” ولم تنقل مناشداتهم ومطالبهم فضائيات “العرب”. الشاشات التي كانت تتسابق لنقل أحداث مصر واليمن وليبيا وسورية، لم تصل عدساتها إلى البحرين… شهودها العيان لم يحدثوا الجماهير العربية عن شهداء شبان كعلي مشيمع وعلي المؤمن، وعلي بداح وعن أطفال لا يفقهون السياسة إلا أنهم يفقهون معنى الكرامة والحرية، كعلي الشيخ أو هاشم سعيد.
أرادت هذه الفضائيات أن لا تسيء إلى الصورة التي جهدت أنظمة الخليج على تكريسها، صورة “الدولة الريعية” التي تشتري صمت شعبها مقابل التقديمات الاجتماعية والمادية. وظلت صورة شعوب الخليج في أذهاننا صورة الشعب المرفه اقتصادياً البعيد عن قضايا السياسة. إلا أن اكتشفنا أن الحقيقة مغايرة… من كشف لنا هذا؟
من قلب ميدان اللؤلؤة الذي هدمته السلطة البحرينية فيما بعد، خاطب البحرينيون العالم: بلادنا العائمة على النفط في الخليج، يسكنها فقر وتهميش وإقصاء، شعبها ليس مترفاً منتقص في الحقوق ملسوب الحريات، يتعاطى السياسة ويهتم لشؤون العرب والمسلمين، يحب فلسطين ويمجد للمقاومة، ولا يعترف بالاحتلال.
نجح البحرينيون في كسر الصورة النمطية عن الخليجيين في عقولنا، ونجحوا في كسر الحظر الإعلامي عن قضاياهم. رغم التعتيم الإعلامي عرّفت ساحات البحرين بمعاناة شعبها، بدءاً من انعدام المشاركة السياسية مروراً بالتجنيس السياسي والتغيير الديمغرافي إلى سياسات التمييز… نجح البحرينيون ليس في مواجهة النظام السياسي في دولتهم وحسب بل في مواجهة العالم ككل الذي صد أبوابه بوجه صرخاتهم. فاخترقت هذه الصرخات جدران الموت المفروضة على البحرين، لتعرّي النظام البحريني، فكان أول مكسب سُجل للبحرينيين (1).
وفي الحقيقة لم يكن النظام البحريني وحده من يتحسس الخطر من الحراك في ساحات البلاد، تأهب الخليج بكبرى مملكاته لمواجهة الشعب الأعزل. منذ الأيام الأولى دخلت السعودية على خط المواجهة… قطعت دباباتها وآلياتها العسكرية جسر الملك فهد مدججة بالسلاح، لمواجهة الصدور العارية والقبضات التي كانت تحمل الورد في دلالة على السلمية. لم تذهب السعودية وحدها، بل جرت معها قوات خليجية إلى البحرين، وبإشراف المملكة وبقرار من وزارة الداخلية السعودية استُبيحت قرى بكاملها، وهوجمت مستشفيات واعتقلت طواقم طبية بجريمة “اسعاف مصابين”، أُزيل دوار اللؤلؤة.. وهدمت مساجد بكاملها واحرقت أخرى بما فيها من نسخ للقرآن الكريم… لتُفتح البحرين على حمام من دم. وبقرار من المملكة نفسها فصل المئات من وظائفهم، بعد أن قُطعت الطريق على مبادرة ولي عهد البحرين للحوار مع المعارضة على بنود 7 كان قد تم التوافق عليها كركائز للحوار.
أردات المملكة ان تؤدب الداخل السعودي بقمعها للبحرينيين. أوصلت رسالتها أن “الثورات” في الخليج خروج عن الخط الأحمر، وبالتالي تسقط كل المحرمات الدينية والاجتماعية. بكل وضوح قالها وزير الداخلية السعودي يومها إن القمع لن يتوقف قبل عودة البحرينيين إلى منازلهم.
أكثر من خمس سنوات من القمع المتمادي… ولم يعد البحرينيون إلى بيوتهم. نايف بن عبدالعزيز نفسه غادر الدنيا بما فيها، ولم يغادر شعب البحرين ساحاته، ولم يكل من ترداد مطالبه، ولم تتزعزع ثقته بصوابية حراكه. انجاز آخر سُجل للبحرينيين: عدم التراجع (2).
خلال سنوات النضال البحريني الخمس، تمكن البحرينيون من تكريس قضيتهم في الصحف الأجنبية، ونجحوا في إيصال معاناتهم إلى كبريات المنظمات الحقوقية العالمية، التي لم تستثن البحرين من تقاريرها عن انتهاكات الحريات والقمع. لتصنيف البحرين كأسوأ دولة خليجية فيما يتعلق بحرية التعبير والرأي (3).
وبالعودة إلى الأحداث المتسارعة في الأشهر الأخيرة، والتي كان أبرزها سحب جنسية آية الله الشّيخ عيسى قاسم، الذي يمثل أحد أكبر علماء الدين على مستوى الخليج، قبل أن تعلن محاكم النظام عن محاكمته. ماذا حقق البحرينيون هذه المرة؟
لقرابة 90 يوماً، لم يغادر البحرينيون ساحات الدراز، افترشوا الساحات المحيطة بمنزل الشيخ عيسى قاسم، فور إعلان سحب جنسيته. مجدداً قالها البحرينيون: إنه لا عودة إلى المنازل. المعركة هذه المرة كانت أكبر من سابقاتها، البحرينيون بمختلف رموزهم الدينية والسياسية والاجتماعية قرؤوا في الإجراءات الأخيرة حرب وجود. فكان الشعار لا تراجع قبل التراجع عن سحب الجنسية.
لم تتراجع السلطة ولم يتراجع البحرينيون، فلجأت الأولى إلى التصعيد هددت بترحيل الشيخ قاسم وبمحاكمته، لم يكن الرد إلا مزيداً من الإصرار على التواجد في ساحة “الإباء” وفق ما بات يطلق عليها أهلها. حاصرت قوات النظام البلدة ومنعت الدخول إليها، وعاقبت المشاركين في الاعتصام المفتوح أمام منزل الشيخ قاسم بالاستدعاء أو الاعتقال.. ومجدداً لم يتراجع البحرينيون لم يترجعوا… ولم تستطع السلطة إلى اليوم ترحيل الشيخ عيسى قاسم، ولا حتى إجباره على حضور محاكمة لا يعترف بها (4).
قرابة 90 يوماً لايزال الشيخ عيسى قاسم متواجداً في منزله ببلدة الدراز غربي المنامة، تحرسه قلوب أبنائه، بدون كلل أو ملل، غير آبهين بكل الترهيب الرسمي. هي معركة النفس الطويل التي يخوضها اليوم البحرينيون ببراعة مع نظام عجز -رغم الدعم السعودي المفتوح- خلال 90 يوماً عن تنفيذ مفاعيل قرار مزيل بتوقيع ملك.