… عندما يتحول يوم في السنة الى ميقات للإحتفاء بالنصر، ذلك يعني أن هذا اليوم “يكمش” في قبضته حزمة أحداث ومشاهدات، تنتمي الى قضية من طراز خاص، وترفع الوطن الى مقام الحياة بكرامة. تتسجل في التاريخ على أنها ذاكرة، ثم تخرج في كل صيف، من باب كل قلب، عاش الحرب… فتعلّم الحب.
الرابع عشر من آب، يوم يحتفي فيه حزب الله بتحقيق الإنتصار ” الإلهي” …على العدو الصهيوني الذي شنّ عليه حرباً كونية، في تموز-يوليو- 2006. ثلاثة وثلاثون يوماً، تتكدس فيهم الحكايات ، ومع اي محاولة بسيطة لتحريكها ، تراها تدفق كالسيل، وتمتدّ، ولا يعود بإمكانك وضع حصر لها، الا اذا قرّرت أن تضع عنواناً واحداً جاذباً ، يكون خلاصة كل ما جرى، ولا شكّ أن السيد حسن نصرالله، الذي كان هدفاً اساسياً من الحرب التي شنّت على كل لبنان، قد دخل في كل المشاهدات التي تظهّرت حينها ، فغدا خلف النصر وأمامه …جماليات وحكايات .
حصل وأن الحرب قامت، وأن خراباً شيطانياً قام معها ايضاً ، تارة كان يجيء على شكل هدم أبنية وشوارع، وتارة أخرى على شكل اتهامات وخطابات، قامت بها دول وأفراد… غير أن السيد حسن، خرج في ذلك الوقت، منذ البداية، ليعد بالنصر في غمرة الحصار والنار، ويدلي بمفاجآته، فيغرز صنارة وعده في قلب البحر، حيث كانت تترنح البارجة الحربية… ” إنظروا اليها إنها تحترق…” – وكفى بالصوت أن يعيد ترتيب الموج فوق الماء، والمشهد حكاية من الحكايات التي تصلح أن تكون حداءً للنفوس المتأرقة في كل مساء .
لا أحد ينكر أن الناس تفرّقت في البلدان، فالنزوح طال كل القرى، والوجع لفّ القلوب، ومثلما كان القصف عشوائياً وهمجياً ، والقتل لغة كل الوقت… وكرة الموت تلاحق كل صنوف المدنيين، لكن لا مجال لأن ينكر أحد ايضاً ، مشهد ” الحاجة كاملة سمحات” التي أتت في ذروة القصف على الضاحية الجنوبية،الى منزلها في حارة حريك ، لتأخذ على عجالة بعض المستندات الضرورية، وتلتقيها في تلك اللحظة كاميرا ” المنار” لإلتقاط بعض الصور الحية لمشاهد الدمار، يسألها المصوّر عن سبب مجيئها ثم يورد لها كلمة واحدة: “إحكي” … فتفرشت الأرض الملتهبة برد الكلام، وتغسل وجه الدخان ببخور جملة، غدت ثقافة الفطرة الصافية…هي دُمّر منزلها في الضاحية وفي عيناتا، ولكن السيد حسن هو شاغل البال والحال عند هذه الفئة من البشر، ووحده إسمه هو عمارة الحياة من حولهم حتى الممات، لا أحد ينكر جملتها :
” فدا السيد حسن” …! .
وفي الحرب تتكثف الصور، وتنهمر الأخبار، وتصبح فكرة إيجاد ضابطة لحقائق الأمور ومصداقيتها وتناقلها، بحاجة الى جهد غير عادي، ووسيلة تتخطى شاشة متلفزة أو بث إذاعي . كان لدى المقاومين على الجبهات، ما يُلزمهم بأن يرسلوا الى القيادة العليا في المقاومة، المتمثلة بالسيد حسن نصرالله، بأن الوضع بخير، وأن صمودهم وجهادهم لا حدود له، فكان لا بد من مرآة تعكس وجه قلوبهم ، وتكشف حال كل النبضات ، ومن هنا كتب أحد المجاهدين بلسان حالهم كلهم، رسالة خطية في الأسبوع الثالث من الحرب، وتم إرسالها الى السيد في الضاحية الجنوبية . خاطبوه بالولاء، فعبَراليهم صوب الجبهات، يقبل رؤوسهم والأقدام، ويوزع عليهم حباً لا مثيل له، ويكشف للعالم سرّالعلاقة الفريدة بين القيادة والقاعدة، في حروف كانت اجمل وثيقة من وثائق الحرب…
” …جوابي لكم هو شكر لكم، إذ قبلتموني واحداً منكم ، وأخاً لكم…” !
“أخاً لكم…!!” ، تلك هي حكاية تختصر سرّ قائدٍ لا يعِد الا بالنصر، ومقاومين أودعوه أعمارهم وجريان الدم كل العمر. يخلع أمام عناصره جلباب القيادة، ويأتيهم بسلاح لم تخبره كل جيوش العالم…هو التواضع والحب. وعلى ضفة الناس، يسأل عن كل التفاصيل، ويطلب لهم تقديم المساعدة بكل ما أمكن…
وفي القائمة ما لا يختصر… فتحت يومها الأرض على آلاف الصور، والجبهات على قتالٍ دام بلا نوم ، ولا غذاء أوفتات دواء. لكن الطريق ما عاد موحش، وترى السماء برغم الطائرات الحائمة والضاربة، ملأى بالنجوم ، فلنأت الحكاية الآن من آخرها… تقرر وقف اطلاق النار ، ولم يتقرّر ابداً أن العائدين الى قراهم ، سوف يكونون بمأمن من غدر الطرقات المفروشة بالقنابل العنقودية، أو أن ثمة أماكن سوف تأويهم وقت وصولهم الى الديار التي سُوّيت حطاماً في الأرض . الناس عادوا مطمئنين منذ اللحظات الأولى ، نصبوا الخيم لأسابيع عديدة وسكنوا…تلك حكاية كانت بحجم أن ينهض السيد حسن نصرالله بها، في الإحتفال الكبير الذي أقيم بعد نهاية الحرب، ويعلنها كأغلى مشهد من مشاهد النصر، فلا ندري اذا كان هناك من كلماتٍ تكتنز حباً وتقديراً وبصيرة بهذا الصدق من الناس، أكثر مما قاله يومها : ” ايها الأحبة ، ايها الكرام، يا أشرف الناس… وأطهر الناس… وأكرم الناس…” ! …
عبارات مدوية في مدارات القلوب ، وذات قوة لا تقل عن اي قوة عسكرية تتفاقم، وتنذر بهزيمة أخرى للعدو، إذا تجددت فكرة الحرب .
لا مجال أن تحد من إنتشار الشمس، أو تتمكن من رصد دفق النهر، وضوع العطر. هذا هو قائد يعترف بصدقه العدو قبل الصديق، ويغدو شخصه بحد ذاته هزيمة للعدو، فهو الزعيم العربي الذي أهان إسرائيل، وجعل مجتمعها يثق به اكثر من ثقتهم بزعمائهم ، وينتظرون كلامه ويتمنون لو أن لديهم قائداً مثل السيد حسن.
فإلى السيد الذي يطل بخطاب النصر في منتصف كل آب، نظلّ ننتظرك ، لأننا نحتاج أنفاسك، ولأنك “جماليات” ، في كل الحكايات .
المصدر: موقع المنار