ألقى المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان رسالة شهر رمضان المبارك جاء فيها: “لأنه أفضل الشهور عند الله، وأعظم أبواب السماء، والرحمة الواسعة، والموسم الذي اختصه الله بنفسه، قال الله سبحانه وتعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)، لا ليؤمن الفرد بصيامه وقيامه وأسلوب حياته فحسب، بل ليؤمن الأمة والجماعة المدنية وصيغة نظام الإنسان، على قاعدة وصل الأرض بالسماء، والدنيا بالآخرة، لإشباع روح الإنسان، وتمكينه من دوره في بناء ذاته ووطنه وأمته، باعتبار ذات الفرد من ذات الأمة، ووطنه من نظامه وأخلاقياته ووعي الحقيقية التي تتفق مع عظمة الإنسان كمخلوق كريم، ونفس محترمة. لذا فإن الصوم يعني تعريف سلوك الذات بما يتفق مع مبدئها الوجودي، ويمكنها من السيطرة على الأهواء والرغبات والقوى والطاقات، بما يحقق غاية الله في خلقه، لا بفردانية الإنسان فحسب، بل بكيانه المجتمعي وأمته الإنسانية ومشروعه الوطني”.
اضاف:” لذا فإن الصوم، بصيغته الاجتماعية، يعني نكران الظلم بأنواعه سيما السياسي، ونكران الفساد الاجتماعي، والصيغ التي تعتاش على الإثرة والأنانية لصالح تأمين حاجات الإنسان، ووعي الرؤى، وضمان الوطن، وكفالة المواطن، وتطبيق السياسات الأخلاقية المدنية، التي تؤكد أن الإنسان من الله وإليه سبحانه. وأن المهمة السياسية تكمن بتنفيذ مشروع المواطنة بما يحقق غاية الله في إنسانه، ككائن معظم، ومواطن كريم، وكأساس وثيق في شرعية أية سلطة. وهذا ما يدفعنا إلى رفض العداوات، واستنكار البغضاء، وشجب الأحقاد، وتطهير القلوب، ليس بين أهل الدين الواحد، والبيت الواحد، بل بين الناس جميعا، ويلزمنا كمسلمين بالعودة إلى الله، وبطي صفحة الخلافات، وبإعلان المصالحة الشاملة، ووقف هذه الحرب المجنونة على بعضنا البعض في عالمنا العربي والإسلامي الذي يعاني مرارة الفتن، وعقم الأنظمة، وجور الحكام وأنانياتهم”.
وتابع: “نعم إن الصوم حج إلى الله، وأعظم ما فيه أنه يكرس منطق الحج إلى حاجات الفقراء والمظلومين، ويعزز فلسفة الانقطاع إلى الله تعالى، على طريقة تحقيق الغاية من وجود الإنسان على الأرض، ويقظته إلى حقيقة ما هو فيه، لأن معركة الإنسان هي معركة مصير، ووجهة قيم، وطريقة عيش، بخلفية أن من خسر الله خسر كماله المطلق، ومن أساء المحبة إلى عيال الله، أبعده الله عن محل كرامته، ومنعه موطن رضوانه. ولهذا، نؤكد على ميزة وفرادة هذا الشهر المبارك، وأهمية استثماره بقضايا الناس، وبالتأسيس لعدل سلطة، وسلطة عدل تتنافس فيما بينها على خير الناس، وأمن الناس، وكرامة الناس. ولأن الوطن بناسه وحكامه، ندعو الجميع إلى التآزر والتكاتف والعمل معا على صوغ استراتيجية وطنية عابرة للطوائف والمناطق، تخرجنا من دولة المزارع والصفقات إلى دولة القانون والكفاءات”.
واردف: “من هنا، وفي رحاب شهر الله، شهر الهدى والبينات، شهر الدعاء والتوبة والغفران، شهر الصبر، وبناء الذات، ندعو اللبنانيين إلى وفاق حقيقي، وشراكة ثابتة، ومصالحة عامة، تحتضن الجميع، وتدفع بهم نحو نهضة وطنية تتجاوز كل الحسابات الطائفية والمذهبية، وخارج كل الاعتبارات المصلحية، لأن من يريد لبنان الواحد الموحد، ووطن الصيغة والعيش المشترك، عليه أن يكون سباقا في تقديم المصلحة الوطنية على سواها، لا سيما في ظل هذه الظروف الحرجة والصعبة التي تتطلب الكثير من الجهد والعطاء والترفع والتعفف، والإحساس بالمسؤولية الوطنية، فلبنان على المفترق، وأمام المهوار الخطير، لأن ما هو فيه، أمنيا واقتصاديا واجتماعيا، لا يحتمل الرهانات الخاطئة، والحسابات الواهمة، بل يستدعي عملا مشتركا ومتكاملا لنحمي لبنان ولننهض به، وفاء للشهداء المقاومين الذين قدموا وضحوا ودفعوا الأثمان، ذودا عن أرضهم، ودفاعا عن أعراضهم في زمن، انعدمت فيه الكرامات، وقدمت فيه الهدايا على أطباق من الفضة والذهب، جثوا في بازارات القمم، لا لحقوق تسترد، ولا لأقصى يتحرر، ولا لقدس تعود، بل لتيجان تبقى، على رؤوس عطلتها الأحقاد، واستحكمت بها نزوات الكراهية والتسلط، فيما الأمة متروكة لأقدارها، ومصيرها معلق على خرائط ترسم من جديد”.
وقال: “إنها لمهزلة التاريخ، أن تتحول أمة الإسلام، أمة “إقرأ”، أمة رسول الرحمة والخلق العظيم، إلى بيئة تحتضن الإرهاب، وتخرج عصابات التكفير، وزعاماتها في غياب مطلق، وغطيط مخيف، نسأل الله لهم الهداية، ولأهل السلطة، وكل الأفرقاء السياسيين في لبنان، الوعي والإدراك، وسداد التوجه، لعل في ذلك ما يدفعهم إلى الانعتاق من كل ارتهان، والانطلاق إلى تحصين بلدهم”.