خلال حملته الإنتخابية، تساءل بعض الجمهوريين قبل سواهم، كيف يؤتمن دونالد ترامب على “محفظة الزرّ النووي”؟ وتبرَّأ أيضاً قادة في الحزب الجمهوري من دعم حملته قبل سواهم، واعتبروا أنه لا يملك إيديولوجية تضبط إيقاع تصرفاته، وبوصوله الى البيت الأبيض، وخلال أسبوعٍ واحد، خسِر من شعبيته ما خسِره جورج بوش الأب بعد ثلاث سنوات ونصف من ولايته، وبدأت معركة ترامب مع القضاء، الذي علَّق العمل بقراره منع دخول رعايا من سبع دول شرق أوسطية ذات غالبية إسلامية، ووصلت الأمور الى إقالة القائمة بأعمال وزير العدل، أكبر محامية عن الحكومة الاتحادية “سالي بيتس” بعد أن رفضت تطبيق القرار، الى أن جاءت إقالة “مايكل فلين” المستشار الأمني بسبب اتصالات بينه وبين روسيا قبل تولي ترامب منصب الرئاسة، مع ما تسرَّب من معلومات عن أن “فلين” متورِّط بخُطط مع رئيس الوزراء الإسرائيلي تستهدف إيران، ولا يحتمل الرئيس ترامب في بداية ولايته التي تتَّسم بعدم الإستقرار السياسي للبيت الداخلي الأميركي أن يدخل في مغامرة غير محسوبة العواقب.
وعلى وقع ما يحصل من اعتراضات شعبية منذ فوز ترامب ضمن “الولايات الديموقراطية” وأبرزها كاليفورنيا السائرة بإجراءات جمع تواقيع الإستفتاء على الإنفصال، بدأت موجة التشكيك الخارجية، ووصلت الأمور برئيس مجلس العموم البريطاني “جون بيركاو” الى القول أمام المجلس، أنه يُعارض بقوة دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لمخاطبة مجلسي البرلمان خلال الزيارة الرسمية التي قد يقوم بها الى المملكة المتحدة، في الوقت الذي كانت تشهد فيه المدن البريطانية مظاهرات استنكار لسياسة التمييز العنصري التي ينتهجها ترامب.
وعلى وقع التشكيك الأوروبي بمصداقية الرئيس الأميركي، جاءت الزيارة الأولى لوزير الحرب “جيمس ماتيس” الى مقرّ حلف الناتو في بروكسل منذ أيام، محاولة طمأنة من إدارة ترامب للدول الأعضاء في الحلف، أكَّد خلالها “ماتيس”، دعم الرئيس بقوَّة لهذا التكتل، لكن مع تمسُّك ترامب بمطلبه من الدول الأعضاء في الحلف، الإيفاء بالتزاماتهم على مستوى الإنفاق العسكري، وقد اعتبر مراقبون، أن هذه الزيارة لمقرّ الناتو، تحمل ما يعتبرونه تراجعاً من ترامب عن مواقفه التي أطلقها خلال حملاته الإنتخابية، بأن هذا الحلف قد تجاوزه الزمن ويجب تعديل أنظمته لتتماشى مع شروط مواجهة الإرهاب، مع الإبقاء على شرط ترامب أن الولايات المتحدة لن تدافع عن حلفائها الذين لا يساهمون بالتزاماتهم فيه.
زيارة “ماتيس” لم تبدِّد القلق الأوروبي خاصة لدى البلدان المجاورة لروسيا، بعد صدور تقارير عن انتهاك روسيا لمعاهدة مع الولايات المتحدة، من خلال نشرها صواريخ جديدة تطلق من قواعد أرضية، وهو ما تنفيه موسكو، لكن القلق الأوروبي يبقى بوضعية مكانك راوح، نتيجة عدم وضوح العلاقة المستقبلية بين الرئيسين ترامب وبوتين، والتي قد تكون على حساب بعض الدول الأوروبية التي كانت متمسِّكة بمظلة أمان حلف الناتو، وهي في نفس الوقت عاجزة عن تغطية ما يتوجب عليها من نفقات، في حال قررت الولايات المتحدة التوقُّف عن الإسراف في تمويل حلفٍ تشكِّك بجدوى استمراريته، وهذا ما دفع الأمين العام للحلف “ينس ستولتنبرغ” الى استباق زيارة “ماتيس”، عبر تأكيده الرغبة في العمل مع الولايات المتحدة، مُعلناً عن زيادة نفقات الدفاع للحلفاء الأوروبيين وكندا بنسبة 3,8% خلال العام الجاري، لكن هذا الرقم يُعتبر غير كافٍ بالنسبة لإدارة ترامب، وفي نفس الوقت، هو أقصى ما يُمكن أن تقدِّمه أوروبا التي تُعاني بعض بلدانها من الإفلاس، وبعضها الآخر تعيش حالة تململ، نتيجة أعباء تتحملها الدول الصناعية الكبرى عن الدول الفقيرة، سواء في موازنة الناتو أم في موازنة الإتحاد الأوروبي.
والرؤية المشتركة التي تجمع أميركا ترامب و”أقوياء أوروبا” في النظرة الجديدة الى الناتو، هي في تقييم المخاطر ومصدرها وسُبُل مواجهتها، وبما أن خطر الإرهاب بات أولوية تطغى على خطر الصراع مع روسيا، فإن هدر المال في الحفاظ على القوة التسليحية والجاهزية العملانية لـ “مواجهات دُول” مُنتفية في الوقت الحاضر، وبالتالي يبقى الناتو مجرَّد فزاعة مكلِفة في حربٍ باردة غير قابلة للسخونة، لأن لكل دولة خوفها الداخلي من إرهاب لا تنفع معه كل ترسانات “الناتو”، ولأن قنبلة مولوتوف على مركز تسوُّق أو مرفق عام باتت هاجساً في أية مدينة أوروبية أكثر من أي خطر آخر، خاصة في الدول البعيدة جزئياً عن روسيا، لكن التراجع عن وحدة “طَرَفي الأطلسي” ضمن الناتو كحلف عسكري غير وارد بشكلٍ رسمي حالياً، نتيجة الأحلاف التي تنسجها روسيا سواء مع دول مجموعة “البريكس” أو دول “الحلف الأوراسي”.
ولأن إستمرار الناتو بنفقاته الباهظة التي تتحمَّل الولايات المتحدة النسبة الأكبر منها، يستوجب إعادة النظر بأنظمته وفق وجهة النظر الأميركية، فإن الدول الأوروبية قد تجِد نفسها في وضعٍ حرِج، هي التي ارتضت أن تكون ميدان المواجهة الأمامي للناتو بمواجهة حلف وارسو ما بين عامي 1945 و 1991، ومع إلغاء حلف وارسو، بدت الدول الأوروبية وكأنها قذائف جبهة أمامية ضمن الناتو لتعزيز آحادية سيطرة أميركا على العالم.
ومع تبدُّل الأولويات الأوروبية المرتبطة بالأمن الداخلي لهذه الدول، فإن الشعار الوحيد الذي أطلقه ترامب “أميركا أولاً” هو الوحيد الذي تلقَّفته أوروبا وخاصة في فرنسا وبلجيكا والنمسا وهولندا وسويسرا حيث اليمين المتطرِّف بات يعتبر الحدود الوطنية لكل دولة هي الأولوية لمواجهة الإرهاب، ولم يعُد الناتو سوى هيكل قديم موروث قابل للتآكل الى حدود الإلغاء مستقبلاً، ما دامت الدول الأوروبية باتت تميل الى الخروج حتى من الإتحاد الأوروبي بعد التجربة البريطانية، ولن تكون حريصة على الناتو أكثر من الإتحاد الأوروبي والسوق الأوروبية المشتركة، والعولمة الى مزيدٍ من الإنقباض داخل الحدود الداخلية لدولٍ تُجاور الإرهاب، ولا يستطيع ترامب التحكُّم به عن بُعد وحُكم أوروبا بذريعة حمايتها عبر الناتو أو سواه من أحلاف باتت غير مجدية…
المصدر: موقع المنار