بقلم د. حسن أحمد حسن(*)
مقطع فيديو مدته أربع دقائق وخمس وثلاثون ثانية نشره الإعلام الحربي في المقاومة الإسلامية “حزب الله” فشغل الكبير والصغير والبعيد والقريب، وترك الجميع مشدودين لكل ثانية تمر ليزداد المؤمنون إيماناً واطمئناناً إلى قدرات المقاومة التي كانت على الدوام على قدر المسؤولية، ويزداد قتلة الأنبياء ومصاصو الدماء ومجرمو العصر تردداً وارتباكاً، وقلقاً مما تم الإعلان عنه حتى الآن فماذا عما لم يعلن؟ …
نعم إن مسارح العمليات ومواقع الاشتباك المزمن ملزمة بالتعامل مع الواقع الجديد الذي تركه نشر مقطع فيديو يصور إحدى المدن الصاروخية لحزب الله وقد استقرت بأفضل حال، وغدت جزءاً من باطن الأرض اللبنانية المحصنة برجال يوفون بعهودهم، ويقرنون الأقوال بالأفعال التي غالباً ما تسبق الأقوال، والسؤال المشروع الذي لن يجد إجابة عليه إلا عند خروج الاشتباك عن ضبط الإيقاع المطلوب هو: كم مدينة صاروخية أخرى تعج بالحياة والقدرة في أعماق الجبال اللبنانية حيث يتابع الناس حياتهم وأعمالهم وهم واثقون بأن تحت أراضيهم التي يعيشون منها وعليها ما هو كفيل بمتابعة شؤون حيواتهم اليومية بكل أمان وسلام واطمئنان، في حين أن الصورة على النقيض لدى الطرف الآخر، حيث تَرْكُ المستوطنين لأماكن إقامتهم في الشمال الفلسطيني المحتل يزداد اتساعاً وعمقاً، ورسائل المدينة الصاروخية “عماد 4” تضع الكيان السرطاني المؤقت وداعميه أمام واقع جديد يفرض إعادة الحسابات أكثر من مرة قبل الإقدام على أية حماقة أو تهور بالهروب إلى الأمام، ولو أن المنطق الاستدلالي والتفكير العلمي يحكمان أداء إدارة بايدن لكان حرياً بتلك الإدارة أن تتقدم بأسمى آيات الشكر لحزب الله الذي أعلن عن بعض مما لديه، وهو على قلة المعروض كافٍ للتأكد من حتمية فشل أية سيناريوهات تصعيدية يفكر بها أصحاب الرؤوس الحامية في واشنطن وتل أبيب.
وكأن إحدى أهم رسائل الفيديو تقول للبيت الأبيض، ومن خلفه ما يدعى “حكومة الظل” أو الحكومة الخفية المتحكمة بغالبية مفاصل القرار الدولي: إذا كنتم حريصين على وقت إضافي لتأجيل الاعتراف بوصولكم إلى المحطة ما قبل الأخيرة من الإعلان الإلزامي بأن العمر الافتراضي المسلم به للكيان السرطاني المؤقت قد أزف، فعليكم وضع ملا تم عرضه بالحسبان بعيداً عن المكابرة التي لا تقدم ولا تؤخر، وكل ما تستطيعون فعله اليوم إبقاء هذا الكيان على المنفسة الأمريكية إن شئتم، لكن ضمن العناية المركزة، وليس خارجها بعد أن فقد القدرة على التوازن الذاتي برغم الدعم اللا مسقوف المقدم له، ولضمان بقائكم ببعض ماء وجه عليكم ربط أقدامه وأيديه قبل إقدامه على الانتحار بطريقة أو بأخرى، فقد يغافلكم بعض المهووسين بسبب فهمهم الخاطئ لاصطفافكم العلني مع التوحش والعدوانية المنفلتة من كل عقال، وقد آلى محور المقاومة على نفسه أن يلزم أولئك جميعاً بدفع ضريبة مؤلمة على الجرائم التي استمرؤوا ارتكابها بدعمكم، واليوم قد ثبت لديكم عجز كيان اللقطاء عن الاستمرار بأداء دوره الوظيفي كرأس حربة سامة لأنها تثلمت على امتداد أكثر من عشرة أشهر على انطلاق ملحمة طوفان الأقصى، واستحضار البوارج والأساطيل وحاملات الطائرات لن يعيد هيبة الردع للوحش المثخن بالجراح القاتلة رغم فظاعة ما يرتكبه من إجرام، وحذار من أن ينقل إليكم الجنرالات والسياسيون الصهاينة الفاشلون عدوى تآكل الردع، وبخاصة في مثل هذا التوقيت الضاغط على مفاصل اتخاذ القرار في الإمبراطورية الأمريكية التي تعاني بدورها من صعود جيل جديد لا يستطيع تبني السردية التقليدية التي تشرعن وتفرض دعم الإجرام الإسرائيلي الذي لم تشهد له البشرية مثيلاً قط، وقد تكون الخطوة الأولى الأكثر مردودية لاستعادة الهيبة الأمريكية برفع الكرت الأحمر في وجه نتنياهو وحكومته، ليس رأفة بالمنطقة وشعوبها، بل لتمكين الأمريكيين من تجاوز التداعيات الكارثية التي خلفها جنون نتنياهو وحكومته بثوبها النازي الجديد، وإذا استطاعت أمريكا إيقاظ نتنياهو من غيبوبة الصدمة التي يتخبط فيها، فإنها تمسك بيدها حبل النجاة، وتضع قدمها على أول درجة في سلم الخروج من الحفرة التي صممها النيو ليبراليون الجدد فكانوا أول المتخبطين بدهاليزها المخيفة بعد التخلي عن كل ما له علاقة بحماية الحريات والديمقراطية، وإمكانية استعادة الدور الأمريكي المفقود جزئياً مرهون اليوم بإعادة متابعة دقائق الفيديو الذي بثه الإعلام الحربي للمقاومة الإسلامية وقراءة رسائله بشكل علمي وموضوعي بمنأى عن تقييد قراركم بمشاركة تل أبيب تجرع علقم الاستهانة بقدرات الآخرين واحتلال أرضيهم بالقوة، والاستمرار بحرب إبادة جماعية وتهجير ممنهج بعد اليقين من عبثية الأهداف المعلنة باعتراف الإسرائيليين أنفسهم، وقد يكون مجدياً التلويح ــ ولو همساً ــ بترك تل أبيب تقتلع أشواكها بنفسها ما لم تستجب للقرار الأمريكي إذا كنتم جادين فعلاً في التوصل لوقف إطلاق النار في غزة، فالدور الأمريكي في كامل هذه المنطقة الجيوستراتيجية يتأثر سلباً بمشاركة أمريكا الجرائم الإسرائيلية المرتكبة، وسيزداد هذا التأثر السلبي المباشر ما لم يتم لجم الكلب المسعور نتنياهو ومن معه.
محور المقاومة بخاصة وكل المهتمين بتطور الأحداث وتداعياتها بعامة يعلمون علم اليقين أن الولايات المتحدة الأمريكية ما تزال الجبروت العسكري والاقتصادي الأقوى عالميا، لكن هذا لا يخيف أنصار نهج المقاومة، ولا يغير في هذه القناعة حجم القوات والأسلحة والأساطيل التي يستقدومنها، لأن المقاومة تتعامل مع السيناريو الأكثر سوءاً، وقد سبق لأكثر من مسؤول صهيوني أن هدد وطالب باستخدام القنابل النووية ضد قطاع غزة وأهله المحاصرين منذ عقود، وهذا يعني إمكانية الانتقال من التهديد إلى التنفيذ ضد حزب الله وبقية أطراف محور المقاومة، وهذا من ضمن السيناريوهات الموضوعة على طاولة البحث والحساب بشكل دائم، وبالتالي: ماذا لديكم أخطر من ذلك لتهددوا به؟
إذا نظرنا من الجهة المقابلة فإن واشنطن وتل أبيب وكل من يدور في هذا الفلك الآسن يعلمون بعض مما لدى المقاومة، وليس كل ما لديها، وكيلا يعتمدوا على حسابات خاطئة يتم التلويح بها من وقت إلى آخر قدم لهم الإعلام الحربي للمقاومة مادة دسمة للتوقف عند دلالاتها، وعرض بعض الجديد مما تمتلكه المقاومة على أمل تبريد الرؤوس الحامية، لأن الندم لن ينفع بعد إطلاق شرارة إشعال المنطقة، ولا يخفي المحور المقاوم حرصه على عدم إشعال المنطقة، وأنه لا يرغب بالحرب الشاملة في هذا التوقيت، لكنه لا يخشاها، وقد أعد لها ما يضمن الانتصار مهما ارتفعت التكلفة والضريبة، وإذا كانت الأناكودا الأمريكية حريصة على إطالة عمر الكوبرا الصهيونية فعليها إلزام الفراخ بعدم مغادرة الجحر، وليس تقديم الحوافز والمشجعات لنفث السم في كل اتجاه، وما ينتظر الأفاعي وفراخها أكبر من القدرة على ضمان البقاء والوجود، فليلعق حاملو فيروس الهزيمة والخوف على الوجود دماء جراحاتهم المتقيحة بعد تبلور معالم تآكل كل ما له علاقة بالردع وهيبة القوة والنفوذ، القادم أعظم وأشد كارثية إستراتيجية وعلى شتى الصعد والمستويات.
توقفت كالكثيرين غيري عند مقطع الفيديو المعنون بـ: “جبالنا خزائننا” الذي يعرض المنشأة الصاروخية “عماد 4” والجمل القليلة التي كتبت لتوضيح رسائل محددة يفترض أن تصل إلى المعنيين، وبعد إعادة المشاهدة عدة مرات والتدقيق في الكثير من التفاصيل التي قد تحمل رسائل عميقة المضمون والدلالات، أرى ضرورة تناول المضمون من زاوية أخرى بدلاً من إعادة صياغة ما تم تناوله وتوضيحه من قبل الكثيرين ممن سبقوني للكتابة وتقديم قراءات غنية وجديرة بالاهتمام، وسأكتفي بالتوقف عند عدد من النقاط التي أرى أنها جديرة بالبحث والتحليل، ومنها:
• عرض منشأة “عماد 4” بتجهيزاتها وتحصينها وبعض ما فيها يؤكد أمرين أساسيين:
ـــ قدرة المقاومة على تنفيذ ضربة مؤلمة لجيش الاحتلال في أي وقت تشاء، أي إن مقولة حتمية الرد على اغتيال القائد الجهادي فؤاد شكر ليست مجرد تهديد، بل واقع قائم وضمن الإمكانيات المتاحة.
ــ إمكانية احتواء أي عدوان عسكري مهما بلغ حجمه وشدته سواء أجاء العدوان في معرض الرد على رد حزب الله، أم في أي سياق آخر، ومن الطبيعي أن يتم الانتقال بعد احتواء الضربة المعادية إلى تنفيذ الضربة الجوابية، والمنشأة المعروضة مضمونة البقاء بسلامة من أي قصف أمريكي أو إسرائيلي، ومضمونة الفاعلية والنجاح في توجيه الضربة الجوابية، ولعل هذه هي الرسالة الأهم للفيديو المعروض.
• أظهر الفيديو عدداً من الجوانب العسكرية المهمة، ومنها:
ـــ الاعتماد على الاتصال السلكي المضمون وليس على أي نوع آخر من الاتصالات.
ـــ الانضباط العالي والرفيع الذي يحكم أداء الجميع، ولقطات تأدية التحية العسكرية للقائد المسؤول عن المقاتلين فور دخوله، وردها بمثلها تظهر المستوى العالي من الانضباط واحترام التراتبية الكفيلة بضمان تنفيذ التوجيهات بدقة وحرفية عاليتين.
ـــ انشغال كل مقاوم بعمله وعدم الالتفات إلى أية جزئية أخرى تظهر أهمية تحديد المسؤولية، وتفهم المهام المسندة من الجميع، والتكامل بين الأدوار بما يضمن النجاح الأكيد في تنفيذ المطلوب في أي توقيت وأي ظرف كان.
ـــ توزيع الإنارة ووجود جهاز لابتوب يعني تأمين كل مستلزمات العمل، وبكل تأكيد لا ينتظر المقاومون في المنشأة أو غيرها وصول باخرة نفط، أو احتمال تأخرها، فالمنشأة أقيمت وجهزت لتكون قادرة على تنفيذ المهمة المسندة في كل زمان ومهما كانت الظروف الخارجية.
• عرض مثل هذه المنشأة المجهزة يعني تفنيد تشدقات المسؤولين الصهاينة بأهمية ما أنجزوه عبر ما أسموه “المعركة ضمن الحروب”، فكل ما يجب أن يصل إلى المقاومة وصل، وتم توزيعه وتخزينه وتجهيزه بما ينسجم وخوض الحرب الأكبر عندما تخرج الأمور عن التحكم بالإيقاع المضبوط حتى الآن.
• من الطبيعي أن يتساءل المتابع الحيادي: كم استغرق تجهيز مثل هذه المنشأة؟ وأين كانت الأقمار الصناعية وفخر التقانة المتخصصة بالرصد والاستطلاع والتجسس والمتابعة؟ وهل هذا يعني فشلاً عسكريا واستخباراتيا إضافيين لدى الكيان المؤقت وداعميه، أم ماذا؟
• بالمقابل كم هي المقاومة متجذرة في بيئتها الحاضنة، وكم هو حجم الوفاء من هذه البيئة للمقاومة المطمئنة إلى كتمان أسرارها ودعمها ممن يستحقون أن يقال عنهم بحق: “يا أشرف الناس”.
• هناك العديد من النقاط التي ذكرها زملاء آخرون من المحللين والكتاب الذين كان لهم فضل السبق بالكتابة والتحليل، ولا أرى ضرورة لإعادة ما كتب سواء ما يتعلق باتساع الأنفاق وتفرعاتها، ونوعية الأسلحة التي ظهرت، ودلالات مرور الشاحنات المحملة بالراجمات وترقيمها، وعدد المنشآت الأخرى طالما أن المنشأة المعروضة تحمل اسم “عماد 4″، وكثير غير ذلك من النقاط والجوانب المهمة والغنية بالمعاني والدلالات.
• تساؤل مشروع: إلى أي مدى تمتد الأنفاق التي جهزها حزب الله لمدنه الصاروخية وغير الصاروخية؟ وفي أي اتجاه امتدادها الرئيس؟ وقبل هذا وذاك أيعقل أن يكون بعضها محفورا تحت الشمال الفلسطيني، وإلى أي عمق؟ …
“ويبقى العز في رأس الجبال”
المصدر: بريد الموقع