كتب وزير الثقافة اللبناني القاضي محمد وسام المرتضى مقالًا في جريدة الجمهورية جاء فيه :
“على هذه الأرضِ ما يستحقُّ الحياةْ
هتافاتُ شعبٍ لمن يصعدون إلى حتْفِهم باسمينَ
وخوفُ الطُّغاةِ من الأغنياتْ
على هذه الأرضِ: سيِّدةُ الأرضِ
أُمُّ البداياتِ… أمُّ النهاياتِ
كانت تسمّى فلسطين… صارت تسمّى فلسطين
سيِّدتي، أستحقُّ، لأنَّكِ سيِّدتي، أستحقُّ الحياةْ.”فلسطين هي التي تستحقُّ الحياة أوّلًا، لأنَّ حروفَها الستةَ هي جهاتُ الوجود السِّتُّ، ولأنّها الحياةُ الطالعةُ من عصفِ الدمار، والأغنيةُ التي يرتعبُ منها الطغاةُ والغزاة، وإرادةُ الحريّة التي لا يستطيعُ القتلُ اليوميُّ أن يغلبَها. عقودٌ من الاحتلال الصهيوني، عبثَت بأسماء الحجارة فيها، وبتراثِ الزيتون والبرتقال، من إصبَعِ الجليل المبتلِّ بالنّدى إلى قدَمِ النَّقَب المغموسةِ في الماء، وحاولت أن تستبدلَ بالعربية الفصحى لغاتِ الأرضِ التي قدِمَ منها المستوطنون الدخلاء، في مشروعٍ متوحِّشٍ معادٍ للسلامِ والإنسانية، فباغتَه حجرٌ وترصَّده طوفان، فإذا المشروع أضغاثُ هباء، وإذا الدولةُ المسخُ أوهنُ من بيتِ العنكبوت.
ولعلَّ القراءةَ الصحيحة للتاريخ على ضوء وقائع الحاضر، هي التي تقود إلى تَوَقُّعِ ملامحَ ما سيؤول إليه المستقبل. فغزةُ التي تتعرّضُ لمجازرِ الإبادة الجماعية، في ظلِّ الموت السريريِّ اللاحق بالضمير العالمي الرسمي، إنْ كان له أصلًا من ضمير؛ والتي تعلنُ بصمودِها في كلِّ يومٍ انتصارًا تلوَ انتصار، تذكِّرُنا بأنّ المعاركَ الكبرى في مسيرة الحضارة البشرية، عادةً ما تقتات بالدمار والدماء، ويذهبُ ضحيَّتَها كثيرٌ من الشهداء والأبرياء، لكنَّ النصرَ يكون دائمًا في نهايتها حليفَ الحقِّ وأصحابه. ومن يتأمّل ما حدث منذ السابع من أكتوبر حتى اليوم، يجد أن أمورًا كثيرةً من هذا القبيل، على الرغم من الأهوال التي تحيق بغزة وسكانها، أصبحت محطاتٍ على درب النصر الأكيد، نتيجة تضحيات ليس لغير أصحاب الإيمان الحارِّ والإرادةِ الحرّة أن يقدموها. وسوف أوجزُ هذه المحطات في خلاصاتٍ خمسٍ هي:أوّلًا: لقد أدَّت عملية طوفان الأقصى إلى انهيارِ المنظومتين العسكرية والأمنيةِ في الكيان العدو. فما فعله المجاهدون في طَرْفةِ فجرٍ، لم يكن عمليةً عاديةً، بل تدميرًا لمشروع عسكري استمر بناؤه، جيشًا وأمنًا، على مدى خمسٍ وسبعين سنةً، وكان يُرادُ له أن يكون الأداةَ المباشرةَ للاستيلاء على الشرقِ كلِّه، وترهيبِ شعوبِه واستتباع أنظمته، توصّلًا إلى نهب خيراتِه، بما فيها تراثُه غير المادي. فإذا بهذا الجيشِ عاجزٌ بكلِّ ما أوتيَ من قدراتٍ تكنولوجية عن استكشافِ خطَّةٍ مجاهِدة دُبِّرَت في نفقٍ تحت شمسِ غزة، فاضطرَّ إلى الاستنجاد بالأساطيل وحاملات الطائرات، كاشفًا عن هويته الحقيقية التي تؤكد أنه ثكنةٌ عسكرية متقدمة في بلادِنا، وليس دولةً لشعبٍ وفق المفهوم العصري للدول. ولاحقًا أثبتت قيادة هذه الثكنة فشلها العسكري في تحقيق أي هدف من أهداف العدوان المعلنة، فحوّلت حربها إلى عمليات انتقام وقتل بالمجان من دون أيِّ انتصار ممكن.
ثانيًا: هذا الفصلُ الجديد من الصراع الوجوديِّ مع الكيان المغتصب، أصبح له معنًى آخر مناقضٌ للعنوان الذي أُعطيَ له صبيحةَ نشوءِ عدوانه في النصف الأول من القرن العشرين. فعوضًا عن حركات الهجرة المنظمة المتتالية إلى أرضِ فلسطين، تشهدُ اليوم مطاراتُ الأرض المحتلّة حركات نزوح معاكسة، كلٌّ إلى البلدِ الذي منه أتى، وهذا يؤكِّدُ أن الحلَّ الوحيدَ المتاح للقضية الفلسطينية، هو الذي كنا سميّناه منذ بضعة شهور ب “حلَّ العودتين”، بعودة الفلسطينيين إلى ارضهم، وعودة المستوطنين الصهاينةإلى البلاد التي جاؤوا منها، بدلًا من “حلِّ الدولتين” الذي تأباه طبيعة الحياة، وأصبح تطبيقه اليوم مستحيلًا في ظلِّ الاستيطان السرطانيّ المتفشّي يوماً بعد يوم.
ثالثًا: إن المجازر المرتكبةَ في غزة، ضدَّ الأبرياء من نساءٍ وأطفالٍ وشيوخ، وضدَّ المباني السكنية ودور العبادة والمستشفيات والمدارس ومراكز الأمم المتحدة، وضد كلِّ ما ينبضُ فيه عرقُ حياة وشِريانُ كرامة، جعلت شعوب الأرض تتحركُ في الساحات العامة والشوارع تنديدًا بمواقف حكوماتِها ورفضًا للعدوان وتأييدًا للحقّ الفلسطيني الذي تسطِّرُه اليوم الدماءُ والأشلاء. هذا الموقف الشعبي العالمي غيرُ مسبوق في مسيرة الصراع مع العدو ويقتضي البناء عليه والاستفادة من تداعياته الإيجابية.
رابعًا: إثرَ مجازر غزّةَ تهافتَ جنوبُ الأرضِ لنصرةِ قلبِها. فملاحقة الكيان العنصري وقادته أمام محكمة العدل الدولية، من قبل دولة جنوب أفريقيا، سابقةٌ ضد العدو لا مثيلَ لها من جميع النواحي القانونية والسياسية والإنسانية والأخلاقية.
هتافاتُ شعبٍ لمن يصعدون إلى حتْفِهم باسمينَ
وخوفُ الطُّغاةِ من الأغنياتْ
على هذه الأرضِ: سيِّدةُ الأرضِ
أُمُّ البداياتِ… أمُّ النهاياتِ
كانت تسمّى فلسطين… صارت تسمّى فلسطين
سيِّدتي، أستحقُّ، لأنَّكِ سيِّدتي، أستحقُّ الحياةْ.”فلسطين هي التي تستحقُّ الحياة أوّلًا، لأنَّ حروفَها الستةَ هي جهاتُ الوجود السِّتُّ، ولأنّها الحياةُ الطالعةُ من عصفِ الدمار، والأغنيةُ التي يرتعبُ منها الطغاةُ والغزاة، وإرادةُ الحريّة التي لا يستطيعُ القتلُ اليوميُّ أن يغلبَها. عقودٌ من الاحتلال الصهيوني، عبثَت بأسماء الحجارة فيها، وبتراثِ الزيتون والبرتقال، من إصبَعِ الجليل المبتلِّ بالنّدى إلى قدَمِ النَّقَب المغموسةِ في الماء، وحاولت أن تستبدلَ بالعربية الفصحى لغاتِ الأرضِ التي قدِمَ منها المستوطنون الدخلاء، في مشروعٍ متوحِّشٍ معادٍ للسلامِ والإنسانية، فباغتَه حجرٌ وترصَّده طوفان، فإذا المشروع أضغاثُ هباء، وإذا الدولةُ المسخُ أوهنُ من بيتِ العنكبوت.
ولعلَّ القراءةَ الصحيحة للتاريخ على ضوء وقائع الحاضر، هي التي تقود إلى تَوَقُّعِ ملامحَ ما سيؤول إليه المستقبل. فغزةُ التي تتعرّضُ لمجازرِ الإبادة الجماعية، في ظلِّ الموت السريريِّ اللاحق بالضمير العالمي الرسمي، إنْ كان له أصلًا من ضمير؛ والتي تعلنُ بصمودِها في كلِّ يومٍ انتصارًا تلوَ انتصار، تذكِّرُنا بأنّ المعاركَ الكبرى في مسيرة الحضارة البشرية، عادةً ما تقتات بالدمار والدماء، ويذهبُ ضحيَّتَها كثيرٌ من الشهداء والأبرياء، لكنَّ النصرَ يكون دائمًا في نهايتها حليفَ الحقِّ وأصحابه. ومن يتأمّل ما حدث منذ السابع من أكتوبر حتى اليوم، يجد أن أمورًا كثيرةً من هذا القبيل، على الرغم من الأهوال التي تحيق بغزة وسكانها، أصبحت محطاتٍ على درب النصر الأكيد، نتيجة تضحيات ليس لغير أصحاب الإيمان الحارِّ والإرادةِ الحرّة أن يقدموها. وسوف أوجزُ هذه المحطات في خلاصاتٍ خمسٍ هي:أوّلًا: لقد أدَّت عملية طوفان الأقصى إلى انهيارِ المنظومتين العسكرية والأمنيةِ في الكيان العدو. فما فعله المجاهدون في طَرْفةِ فجرٍ، لم يكن عمليةً عاديةً، بل تدميرًا لمشروع عسكري استمر بناؤه، جيشًا وأمنًا، على مدى خمسٍ وسبعين سنةً، وكان يُرادُ له أن يكون الأداةَ المباشرةَ للاستيلاء على الشرقِ كلِّه، وترهيبِ شعوبِه واستتباع أنظمته، توصّلًا إلى نهب خيراتِه، بما فيها تراثُه غير المادي. فإذا بهذا الجيشِ عاجزٌ بكلِّ ما أوتيَ من قدراتٍ تكنولوجية عن استكشافِ خطَّةٍ مجاهِدة دُبِّرَت في نفقٍ تحت شمسِ غزة، فاضطرَّ إلى الاستنجاد بالأساطيل وحاملات الطائرات، كاشفًا عن هويته الحقيقية التي تؤكد أنه ثكنةٌ عسكرية متقدمة في بلادِنا، وليس دولةً لشعبٍ وفق المفهوم العصري للدول. ولاحقًا أثبتت قيادة هذه الثكنة فشلها العسكري في تحقيق أي هدف من أهداف العدوان المعلنة، فحوّلت حربها إلى عمليات انتقام وقتل بالمجان من دون أيِّ انتصار ممكن.
ثانيًا: هذا الفصلُ الجديد من الصراع الوجوديِّ مع الكيان المغتصب، أصبح له معنًى آخر مناقضٌ للعنوان الذي أُعطيَ له صبيحةَ نشوءِ عدوانه في النصف الأول من القرن العشرين. فعوضًا عن حركات الهجرة المنظمة المتتالية إلى أرضِ فلسطين، تشهدُ اليوم مطاراتُ الأرض المحتلّة حركات نزوح معاكسة، كلٌّ إلى البلدِ الذي منه أتى، وهذا يؤكِّدُ أن الحلَّ الوحيدَ المتاح للقضية الفلسطينية، هو الذي كنا سميّناه منذ بضعة شهور ب “حلَّ العودتين”، بعودة الفلسطينيين إلى ارضهم، وعودة المستوطنين الصهاينةإلى البلاد التي جاؤوا منها، بدلًا من “حلِّ الدولتين” الذي تأباه طبيعة الحياة، وأصبح تطبيقه اليوم مستحيلًا في ظلِّ الاستيطان السرطانيّ المتفشّي يوماً بعد يوم.
ثالثًا: إن المجازر المرتكبةَ في غزة، ضدَّ الأبرياء من نساءٍ وأطفالٍ وشيوخ، وضدَّ المباني السكنية ودور العبادة والمستشفيات والمدارس ومراكز الأمم المتحدة، وضد كلِّ ما ينبضُ فيه عرقُ حياة وشِريانُ كرامة، جعلت شعوب الأرض تتحركُ في الساحات العامة والشوارع تنديدًا بمواقف حكوماتِها ورفضًا للعدوان وتأييدًا للحقّ الفلسطيني الذي تسطِّرُه اليوم الدماءُ والأشلاء. هذا الموقف الشعبي العالمي غيرُ مسبوق في مسيرة الصراع مع العدو ويقتضي البناء عليه والاستفادة من تداعياته الإيجابية.
رابعًا: إثرَ مجازر غزّةَ تهافتَ جنوبُ الأرضِ لنصرةِ قلبِها. فملاحقة الكيان العنصري وقادته أمام محكمة العدل الدولية، من قبل دولة جنوب أفريقيا، سابقةٌ ضد العدو لا مثيلَ لها من جميع النواحي القانونية والسياسية والإنسانية والأخلاقية.
وأيًّا تكنِ النتيجةُ التي ستصلُ إليها المحاكمات، فلا شكَّ في أنّها ستهزمُ صورتَه التي يدعي بها أنه دولةُ الشعبِ المطارَدِ وسْعَ الأرض، الساعي إلى السلام والديمقراطية في أرض أجداده. وسيَظْهَرُ بالبيّنات مقدارُ الوحشية التي يتسمُ بها هذا الاحتلال، في سياساته وممارساته العدوانية، وسيُفتَضَحُ كذِبُ الإعلام الغربي وأدواتِه الإقليمية التي تخفي الحقيقة بجلبابِ الأباطيل. والأهم أن الطرف المدّعي دولةٌ عانت من مثل هذه السياسات والممارسات في تاريخها القريب، وتعرف عن يقينِ تجرِبة معنى العنصرية والإبادة الجماعية.
خامسًا: إنّ الارتكابات التي أقدم عليها الصهاينة في غزة، وما برحوا، تجعلني أزداد رسوخًا كوزير للثقافة في الجمهورية اللبنانية على موقف سبق لي أن أعلنت عنه، مفاده وجوب الدعوة إلى التطبيع، والقطع جزمًا ويقينًا أنْ لا مناص من التطبيع. لكن ما هو هذا التطبيع الذي أدعو اليه والذي أتت أحداث غزّة لتثبّتنا عليه”.
التطبيع لغةً أيها الأحبة هو إعادة الأمر إلى طبيعته بجعله موافقًا للطبيعة. أما الاحتلال الإسرائيلي فهو مخالف للطبيعة مناقض للقيم الإنسانية ومجافٍ للشرائع الدولية والحقوق الوطنية والقومية. والتطبيع الحقيقي الذي أدعو اليه، والذي أرى أنْ لا محيد عنه، يكون بإعادة الأمور إلى طبيعتها، أي باجتثاث الاحتلال وتحرير الأرض واسترجاع الحقوق. فلا وألف لا للتسليم بالاحتلال أو لتسويق العلاقات معه أيًّا كان شكلها. وتزدادُ فكرةُ هذا النوع الصحيح من التطبيع أهمية وراهنيةً كلما ألقت طائرةٌ حممَها على رؤوس الأبرياء في غزّة أو الجنوب اللبناني.واليوم، في طرابلس عاصمة الثقافة العربية، تدفعُنا هذه الخلاصاتُ إلى أن نردِّدَ بصوتٍ واحد: لبنانُ أوّلًا، وكل وطنٍ من أوطاننا أوّلًا، لكنَّ الأمر لن يصيرَ كذلك، ما لم تكن فلسطينُ هي الأولى، وعلى قدم المساواة، لأن الإسرائيلي يرى من جهته، وإن بمعنًى مختلف، أنّ لبنان أوّلًا ولكن في تلقّي العدوان القادم، لأن هذا الوطنَ الصغير، بتنوّعه وعيشه الواحد، يشكّل التهمة الأخلاقية الموجهةَ حضاريًّا إلى الكيان العنصري، والنقيضَ الفاضح لشرِّه وهو، اي الاسرائيلي -ومن وراءه-، يؤمن ان لا رسوخ للكيان الغاصب الاّ بالقضاء على الصيغة اللبنانية. لذلك نحن مدعوون إلى الاستمرار في المقاومة، وبخاصة الثقافية، وإلى أن نبني وطننا على أسس قويمة، ونمتّن وحدتنا الداخلية، ونرسّخ تمسّكنا بقيمنا الجامعة وبعيشنا الواحد، ونستفيد من مقوّماتنا وأهمّها التي تختزنه طرابلس وصولاً إلى بناء المجتمع اللبناني الموحّد على تنوّعه، المكتفي العزيز المشبَعِ بالفكرِ والوعي والحريّة، والرافضِ لأن تكونَ أرضُه ومنطقته مسرحًا لأعداء الإنسانية. وطرابلس التي ردّدت شوارعُها أصداء القضايا العربية منذ قرون، سيمنحُنا عرسُها الثقافي المتمثل بالفعاليات التي ستقام فيها بمناسبة إعلانها عاصمة للثقافة العربية، سيمنحنا هذا العرس المزيد من الثقة بأن عهد الاحتلال آذَنَ بالزوال، وبأن الشمسَ عمّا قريب ستكتبُ فوقَ بوابات المدائن والقرى في فلسطين بأحرفٍ من نور أسماء كنعان وعدنان وقحطان، وأبنائهم من جيل التحرير، وسترتفعُ عاليةً من جديد ضَحِكاتُ الأطفالِ الذين تحتفظُ السماءُ بعويلِ بكائِهم على أقراص نجومِها الزاهرة.
عاش لبنان
خامسًا: إنّ الارتكابات التي أقدم عليها الصهاينة في غزة، وما برحوا، تجعلني أزداد رسوخًا كوزير للثقافة في الجمهورية اللبنانية على موقف سبق لي أن أعلنت عنه، مفاده وجوب الدعوة إلى التطبيع، والقطع جزمًا ويقينًا أنْ لا مناص من التطبيع. لكن ما هو هذا التطبيع الذي أدعو اليه والذي أتت أحداث غزّة لتثبّتنا عليه”.
التطبيع لغةً أيها الأحبة هو إعادة الأمر إلى طبيعته بجعله موافقًا للطبيعة. أما الاحتلال الإسرائيلي فهو مخالف للطبيعة مناقض للقيم الإنسانية ومجافٍ للشرائع الدولية والحقوق الوطنية والقومية. والتطبيع الحقيقي الذي أدعو اليه، والذي أرى أنْ لا محيد عنه، يكون بإعادة الأمور إلى طبيعتها، أي باجتثاث الاحتلال وتحرير الأرض واسترجاع الحقوق. فلا وألف لا للتسليم بالاحتلال أو لتسويق العلاقات معه أيًّا كان شكلها. وتزدادُ فكرةُ هذا النوع الصحيح من التطبيع أهمية وراهنيةً كلما ألقت طائرةٌ حممَها على رؤوس الأبرياء في غزّة أو الجنوب اللبناني.واليوم، في طرابلس عاصمة الثقافة العربية، تدفعُنا هذه الخلاصاتُ إلى أن نردِّدَ بصوتٍ واحد: لبنانُ أوّلًا، وكل وطنٍ من أوطاننا أوّلًا، لكنَّ الأمر لن يصيرَ كذلك، ما لم تكن فلسطينُ هي الأولى، وعلى قدم المساواة، لأن الإسرائيلي يرى من جهته، وإن بمعنًى مختلف، أنّ لبنان أوّلًا ولكن في تلقّي العدوان القادم، لأن هذا الوطنَ الصغير، بتنوّعه وعيشه الواحد، يشكّل التهمة الأخلاقية الموجهةَ حضاريًّا إلى الكيان العنصري، والنقيضَ الفاضح لشرِّه وهو، اي الاسرائيلي -ومن وراءه-، يؤمن ان لا رسوخ للكيان الغاصب الاّ بالقضاء على الصيغة اللبنانية. لذلك نحن مدعوون إلى الاستمرار في المقاومة، وبخاصة الثقافية، وإلى أن نبني وطننا على أسس قويمة، ونمتّن وحدتنا الداخلية، ونرسّخ تمسّكنا بقيمنا الجامعة وبعيشنا الواحد، ونستفيد من مقوّماتنا وأهمّها التي تختزنه طرابلس وصولاً إلى بناء المجتمع اللبناني الموحّد على تنوّعه، المكتفي العزيز المشبَعِ بالفكرِ والوعي والحريّة، والرافضِ لأن تكونَ أرضُه ومنطقته مسرحًا لأعداء الإنسانية. وطرابلس التي ردّدت شوارعُها أصداء القضايا العربية منذ قرون، سيمنحُنا عرسُها الثقافي المتمثل بالفعاليات التي ستقام فيها بمناسبة إعلانها عاصمة للثقافة العربية، سيمنحنا هذا العرس المزيد من الثقة بأن عهد الاحتلال آذَنَ بالزوال، وبأن الشمسَ عمّا قريب ستكتبُ فوقَ بوابات المدائن والقرى في فلسطين بأحرفٍ من نور أسماء كنعان وعدنان وقحطان، وأبنائهم من جيل التحرير، وسترتفعُ عاليةً من جديد ضَحِكاتُ الأطفالِ الذين تحتفظُ السماءُ بعويلِ بكائِهم على أقراص نجومِها الزاهرة.
عاش لبنان